كتلة التوافق: فقدان بن قدارة جنسيته الليبية يفقده الشرعية
في أروقة السياسة المضطربة، عادت قضية رئيس المؤسسة الوطنية للنفط، فرحات بن قدارة، لتتصدر المشهد السياسي والقانوني، ولكن هذه المرة ليست بسبب صفقات النفط أو خطط الإنتاج، بل بشأن ملف بالغ الحساسية: جنسيته الأجنبية وما قد يترتب عليها من تبعات قانونية وسيادية.
لم يكن تصريح كتلة التوافق بمجلس الدولة الاستشاري حول هذه القضية عاديا، بل جاء مستندا إلى حكم محكمة استئناف طرابلس التي أكدت، عبر مستندات رسمية، أن بن قدارة حصل على جنسية أجنبية، الأمر الذي فتح الباب أمام موجة من التساؤلات والاتهامات. فالقضية لم تعد تتعلق بفردٍ يشغل منصبا حساسا، بل بجوهر السيادة الوطنية ومدى التزام المسؤولين الليبيين بالقوانين التي تنظم شغل المناصب السيادية.
تستند كتلة التوافق في بيانها إلى المادة الخامسة من القانون رقم 24 لسنة 2010 بشأن الجنسية الليبية، التي تنص على أن المواطن الليبي يفقد جنسيته تلقائيا حال حصوله على جنسية أجنبية دون إذن مسبق من السلطات. ووفقًا لما تم الكشف عنه، فإن بن قدارة لم يلتزم بهذه الإجراءات، ما يجعل استمراره في منصبه مخالفًا لنصوص القانون وروحه.
لكن السؤال الذي يطرح نفسه هنا: كيف يمكن أن تتغاضى الدولة عن تطبيق هذا النص القانوني الحاسم في سياق منصب سيادي بهذا المستوى؟ الإجابة قد تكون متشابكة بين المصالح السياسية، وغياب الرقابة الفاعلة، وربما تدخلات خارجية تُعقد المشهد.
رئاسة المؤسسة الوطنية للنفط ليست مجرد وظيفة عادية، بل هي منصب سيادي يمس عصب الاقتصاد الليبي. فالمؤسسة تُشرف على الثروة النفطية التي تُعتبر المصدر الأساسي للدخل القومي. وبالتالي، فإن أي خلل في شرعية من يشغل هذا المنصب قد يترتب عليه تبعات خطيرة، ليس فقط على مستوى القانون الداخلي، بل أيضًا في التعامل مع الشركاء الدوليين.
كتلة التوافق لم تكتفِ بالإشارة إلى قضية الجنسية، بل دعت أيضًا ديوان المحاسبة وهيئة الرقابة الإدارية إلى التحقيق في أي تجاوزات مالية أو إدارية قد وقعت خلال فترة تولي بن قدارة رئاسة المؤسسة. هذه المطالب تعكس قلقًا أوسع حول الأداء الإداري والشفافية في إدارة هذه المؤسسة الحساسة.
الأبعاد القانونية ليست الوحيدة التي تقلق كتلة التوافق. فقد أشارت إلى ضرورة تدخل جهاز المخابرات الليبية للتحقق من تداعيات حصول بن قدارة على الجنسية الإماراتية. فالتساؤلات هنا ليست فقط حول مدى شرعية توليه المنصب، بل أيضًا حول المخاطر المحتملة على الأمن القومي، خاصة في ظل العلاقات الحساسة بين ليبيا ودول الجوار.
إذا كان بن قدارة يحمل جنسية أجنبية، فهل يمكن ضمان ولائه الكامل للوطن؟ هل يمكن الوثوق بقراراته عندما يتعلق الأمر بصفقات ضخمة مع شركات أجنبية؟ هذه الأسئلة تعكس قلقًا مشروعًا في دولة تعاني من تدخلات خارجية متشابكة.
مطالبة كتلة التوافق باتخاذ إجراءات قانونية صارمة بحق بن قدارة تمثل اختبارًا جديدًا لمصداقية الدولة الليبية ومؤسساتها في تطبيق القانون على الجميع دون تمييز. فالقضية ليست مجرد خلاف سياسي، بل هي نقطة فاصلة بين بناء دولة القانون والمؤسسات، أو الانزلاق مجددًا نحو فوضى المحاباة والمصالح الشخصية.
اللافت أن هذه المطالب تأتي في ظل وضع سياسي متأزم، حيث يتنازع الفرقاء على الشرعية والسيطرة على الموارد. وقد تكون هذه القضية ساحة جديدة للصراع بين القوى السياسية المتنافسة، خصوصًا إذا ما اعتُبرت محاولة لإعادة ترتيب الأوراق داخل المؤسسة الوطنية للنفط.
ما يميز هذا الملف هو تعقيداته القانونية والسياسية. فعلى الرغم من وضوح النص القانوني، فإن تطبيقه قد يصطدم بعوائق تتعلق بحصانة المناصب السيادية، ومدى استقلالية القضاء في مواجهة ضغوط السلطة.
إذا نجحت كتلة التوافق في دفع مؤسسات الدولة لاتخاذ إجراءات ضد بن قدارة، فقد تكون هذه سابقة تاريخية في ليبيا، تُثبت أن القانون فوق الجميع. لكن إذا ما تم تجاهل هذه المطالب، فسيكون لذلك انعكاسات خطيرة على ثقة المواطن في مؤسساته، وقد يُفسر بأنه مؤشر على ضعف الدولة أمام نفوذ المصالح الخاصة.
قضية فرحات بن قدارة ليست مجرد نزاع قانوني أو إداري، بل هي معركة حول هوية الدولة الليبية ومستقبل مؤسساتها. فبين تطبيق القانون واحترام السيادة، وبين التدخلات الخارجية والصراعات الداخلية، تبقى هذه القضية مرآة تعكس التحديات التي تواجه ليبيا في بناء دولة حديثة تقوم على القانون والمؤسسات.