في بلد يعوم على بحر من الذهب الأسود، بات المواطن الليبي رهينة لأزمات اقتصادية متلاحقة، تحاصره من كل الجهات. فبينما تعجّ البلاد بالثروات النفطية، يجد الليبي العادي نفسه عاجزًا عن تأمين احتياجاته الأساسية، حيث تحوّلت موائد الطعام إلى ساحات معركة ضد الغلاء، وأصبحت أبسط الضروريات ضربًا من الرفاهية.
يؤكد تقرير مصرف ليبيا المركزي أن معدلات التضخم ارتفعت بنسبة 2.7% خلال سبتمبر الماضي، مقارنة بـ2.5% في أغسطس. ورغم أن هذه النسبة قد تبدو ضئيلة على الورق، إلا أن انعكاساتها على الأسواق كانت كارثية. الأسعار تتصاعد كالصاروخ، بينما الدخل يظل جامدًا في مكانه، والليبيون يتحولون إلى متفرجين على مشهد اقتصادي قاتم.
في شوارع طرابلس وبنغازي وسبها، تبدو الأزمة واضحةً للعيان. المتاجر خاوية من المشترين، والأسواق تعجّ بالشكوى والتذمر. العائلات الليبية باتت تقيس حاجاتها اليومية بالقطعة، بعدما كان الليبي يعرف بشغفه بالتسوق وشراء المواد بكميات كبيرة. اللحوم، الألبان، الخضروات، كلها صارت عبئًا على كاهل محدودي الدخل، فيما صار البحث عن البدائل هاجسًا يوميًا يؤرق الجميع.
تشير بيانات برنامج الغذاء العالمي إلى أن المناطق الجنوبية هي الأكثر تضررًا، حيث ارتفعت الأسعار بنسبة 4.4%، متجاوزةً المعدلات الوطنية. في هذه المناطق البعيدة عن المركز، لا تقتصر الأزمة على ارتفاع الأسعار فحسب، بل تمتد إلى شح السلع وانقطاع الإمدادات. المواطن في مرزق وسبها وغات، لا يعاني فقط من الغلاء، بل من غياب المواد الغذائية من الأساس.
وسط كل هذا التدهور، تبرز تساؤلات ملحة: أين تذهب عائدات النفط؟ لماذا لا يشعر المواطن بتحسن اقتصادي رغم الأرقام المليارية المعلنة؟ التقارير تكشف أن الإنفاق الحكومي في عهد عبد الحميد الدبيبة، رئيس الحكومة منتهية الولاية شهد طفرة هائلة، لكن معظم هذه الأموال لم تُستثمر في مشاريع تنموية، بل ذهبت إلى بنود استهلاكية ورواتب مبالغ فيها، فيما تُرك المواطن لمواجهة مصيره وحده.
ويتهم خبراء الاقتصاد الحكومة بإهدار الموارد العامة على مصالح ضيقة، وتفريغ الخزينة من دون رؤية اقتصادية واضحة. وفي ظل هذا العبث المالي، يتصاعد العجز، ويزداد الدينار الليبي ضعفًا أمام العملات الأجنبية، ما يفاقم ارتفاع الأسعار ويقضي على أي أمل في استقرار السوق.
الصراعات المستمرة حول المصرف المركزي تضيف وقودًا إلى نار الأزمة الاقتصادية. الانقسامات السياسية حالت دون توحيد المؤسسة المالية الأهم في البلاد، ما أدى إلى قرارات اقتصادية متضاربة، انعكست مباشرة على الأسواق. الإغلاق المتكرر للحقول النفطية نتيجة التجاذبات السياسية أدى إلى تراجع الإنتاج، وبالتالي نقص الإيرادات العامة.
في ظل تفاقم الأزمة، تزداد مشاعر الغضب بين الليبيين. الاحتجاجات بدأت تظهر في بعض المناطق، فيما تتصاعد الدعوات إلى تحرك شعبي ضد الفساد وسوء الإدارة. المواطنون، الذين طالما تحمّلوا التقلبات الاقتصادية، أصبحوا اليوم على حافة الانفجار، خاصة مع انسداد الأفق السياسي، وغياب أي بوادر لحل قريب.
الحل الجذري للأزمة يمر عبر انتخابات تفرز حكومة شرعية قادرة على اتخاذ قرارات اقتصادية فاعلة، لكن هذا الخيار يبدو معلقًا في الهواء. الخلافات حول القوانين الانتخابية والجهة التي ستشرف على العملية لا تزال تعرقل المسار، فيما يواصل الليبيون دفع الثمن.
الأزمة الاقتصادية في ليبيا ليست وليدة اليوم، لكنها بلغت مستويات غير مسبوقة في ظل تدهور قيمة الدينار وغياب الرقابة على الأسواق، وإهدار الموارد العامة على حساب المواطن. وبينما يستمر الوضع على هذا النحو، يبدو أن الشعب الليبي مقبل على مرحلة أكثر صعوبة، ما لم تحدث معجزة سياسية تعيد ترتيب المشهد، وتنقذ البلاد من دوامة الفقر والغلاء.