في قلب المشهد السياسي الليبي، تظل المصالحة الوطنية هدفًا بعيد المنال، يتقاذفه السجال بين السياسيين والخبراء، بينما تبقى المؤسسات الليبية غير قادرة على تحقيق أي اختراق فعلي في هذا الملف الشائك. وبينما تتعدد المبادرات والمحاولات، لا تزال الانقسامات العميقة تشكل عقبة رئيسية أمام أي تقدم نحو مصالحة حقيقية.
يرى عضو مجلس الدولة الاستشاري، سعد بن شرادة، أن المصالحة الوطنية ليست سوى “حبر على ورق” ما لم تُبْنَ مؤسسات قوية قادرة على تنفيذها وضمان استدامتها. ويؤكد في تصريحات “صحفية” رصدتها “أخبار ليبيا 24” أن المشكلة الأساسية ليست في النوايا أو الخطابات الداعية للمصالحة، بل في غياب كيان مؤسسي موحد يستطيع ترجمة هذه الرؤى إلى واقع ملموس.
ويشير بن شرادة إلى أن ميثاق المصالحة الذي تم توقيعه في أديس أبابا مجرد خطوة رمزية تفتقد إلى الضمانات التنفيذية، متسائلًا عن الجهة القادرة على تطبيق مخرجاته في ظل الانقسام السياسي والمؤسساتي المستمر. كما انتقد انسحاب نائب رئيس المجلس الرئاسي موسى الكوني من التوقيع، معتبرًا أنه لم يكن جادًا في معالجة الملف منذ البداية.
يعارض بن شرادة توقيع ميثاق المصالحة خارج ليبيا، معتبرًا أن المصالحة لا بد أن تكون نابعة من الداخل وتعكس الإرادة الوطنية بعيدًا عن التدخلات الخارجية. ويعتقد أن بناء الدولة وتوحيد مؤسساتها يجب أن يكون أولوية قبل الحديث عن أي مصالحة.
على الطرف الآخر، يرى عضو مجلس النواب، جاب الله الشيباني، أن المصالحة الوطنية تستحق الدعم، حتى وإن كانت هناك تحفظات على آلياتها أو أهدافها. ويؤكد أن أي خطوة في هذا الاتجاه، حتى وإن لم تكن مثالية، تستحق التأييد ولو بالصمت، محذرًا من أن رفض المبادرات قد يؤدي إلى تعميق الانقسامات.
ويؤكد الشيباني في منشور له عبر صفحته على موقع التواصل الاجتماعي “فيسبوك” رصدته “أخبار ليبيا 24” أن التحديات التي تواجه المصالحة كبيرة، لكنها لا تعني رفض كل مبادرة، مشددًا على ضرورة التعامل بواقعية مع أي محاولة لتحقيق التوافق الوطني.
يرى عضو لجنة 6+6 عن مجلس النواب، ميلود الأسود، أن ميثاق المصالحة في أديس أبابا خطوة رمزية وغير ملزمة، لكنه يمثل مؤشرًا على حسن النوايا، مؤكدًا أن المصالحة لا يمكن أن تتم دون إطار قانوني واضح. وكشف الأسود أن قانون المصالحة في مراحله الأخيرة بمجلس النواب، متوقعًا صدوره قريبًا.
لكن الأسود في تصريحات صحفية رصدتها “أخبار ليبيا 24″، لم يخفِ انتقاده لأداء المجلس الرئاسي في هذا الملف، معتبرًا أنه لم يحقق أي تقدم ملموس، رغم الإعلان عن تشكيل هيئة للمصالحة لم يتم حتى تعيين رئيس لها.
الباحث السياسي وسام عبد الكبير يرى أن المصالحة لا يمكن أن تتحقق دون وجود سلطة موحدة تمتلك الشرعية الكاملة، مؤكدًا أن ميثاق أديس أبابا لا يتجاوز كونه “حبرًا على ورق”. ويشدد على أن تحقيق العدالة الانتقالية هو الأساس لأي مصالحة حقيقية، وأن إبعاد الشخصيات الجدلية عن الملف سيكون عاملًا حاسمًا في نجاح المصالحة.
من جانبه، يرى المبعوث الأمريكي الخاص إلى ليبيا، ريتشارد نورلاند، أن المصالحة الوطنية تُعَد شرطًا أساسيًا لضمان نجاح العملية السياسية في البلاد. وأشاد بجهود الاتحاد الأفريقي ورئيس جمهورية الكونغو في دعم هذا المسار، مؤكدًا أن التحديات كبيرة، لكن العمل على تقريب وجهات النظر بين الفرقاء السياسيين هو السبيل الوحيد لتحقيق الاستقرار المستدام.
رغم تعدد المبادرات التي طُرحت خلال السنوات الماضية لتحقيق المصالحة الوطنية، فإن جميعها اصطدمت بواقع سياسي معقد، تتداخل فيه المصالح الداخلية والتدخلات الخارجية. ومن هنا، فإن نجاح المصالحة يتطلب توافر عدة شروط أساسية، أبرزها:
– توحيد المؤسسات التنفيذية والقضائية: لا يمكن الحديث عن مصالحة فعلية دون وجود سلطة تنفيذية موحدة قادرة على تطبيق القرارات المتعلقة بالمصالحة وجبر الضرر.
– إرساء العدالة الانتقالية: ينبغي أن تشمل المصالحة آليات واضحة لمحاسبة المتورطين في انتهاكات الماضي، وضمان عدم الإفلات من العقاب، بما يعزز ثقة المواطنين في الدولة.
– إبعاد الشخصيات الجدلية عن المشهد: يجب أن تتولى شخصيات وطنية توافقية قيادة مسار المصالحة بعيدًا عن الاستقطابات السياسية، لضمان نجاحه دون توظيفه لخدمة أجندات معينة.
– دعم دولي وإقليمي متوازن: رغم أن المصالحة شأن داخلي، فإن الدور الإقليمي والدولي يمكن أن يكون عاملًا مساعدًا في تقريب وجهات النظر، شريطة أن يتم بعيدًا عن التدخلات السلبية التي تعمق الانقسامات.
– ميثاق وطني ملزم: بدلاً من الاعتماد على اتفاقات ظرفية غير ملزمة، يجب وضع ميثاق مصالحة واضح يضمن احترام كل الأطراف لتعهداتها، وإيجاد آلية تنفيذية قادرة على تحويله إلى واقع.
بين التصريحات المتفائلة حول إمكانية تحقيق المصالحة، والمخاوف المشروعة من أن تتحول إلى مجرد اتفاق سياسي مؤقت، تبقى الحقيقة الواضحة أن ليبيا لن تتمكن من تجاوز أزماتها دون معالجة جذور الانقسام وبناء دولة المؤسسات والقانون. فهل ستتمكن الأطراف الليبية من تحقيق المصالحة الفعلية، أم أن هذا المشروع سيظل مؤجلًا إلى إشعار آخر؟