عندما يطرق السفراء أبواب المؤسسات السيادية، حاملين أجنداتهم وملفاتهم المغلفة بعبارات دبلوماسية منمقة، يثار التساؤل: إلى أي مدى يمكن أن تصل حدود التأثير الخارجي على القرار الليبي؟ هذا السؤال الذي بات حاضرًا في الأوساط السياسية الليبية عقب اللقاء الذي جمع المبعوث الأمريكي الخاص إلى ليبيا السفير ريتشارد نورلاند، بمحافظ مصرف ليبيا المركزي، وما أعقبه من بيان صارم لـ فوزي النويري النائب الأول لـ رئيس مجلس النواب، تحصلت “أخبار ليبيا 24” على نسخة منه.
السيادة الليبية.. معركة قديمة متجددة
لطالما شكلت السيادة الوطنية حجر الأساس في معركة ليبيا ضد التدخلات الخارجية، ومع استمرار المشهد السياسي المعقد، يظل التحدي الأكبر أمام الليبيين هو الحفاظ على استقلالية القرار الوطني. فمنذ سنوات، تعاقبت القوى الدولية على الساحة الليبية، مستخدمة أدوات مختلفة للتأثير على المؤسسات السيادية، بدءًا من مصرف ليبيا المركزي، مرورًا بالمجلس الرئاسي، وصولًا إلى مجلس النواب نفسه.
وفي هذا السياق، لم يتردد النويري في التأكيد على ضرورة احترام سيادة الدولة الليبية، ورفض أي تدخل خارجي في شؤونها الداخلية، لا سيما عندما يتعلق الأمر بالمؤسسات التي تعد عصب الاقتصاد الوطني. فمصرف ليبيا المركزي، باعتباره المؤسسة المالية الأهم في البلاد، لطالما كان هدفًا لمناورات داخلية وخارجية، وسط محاولات لا تنتهي لفرض رؤى اقتصادية تخدم مصالح أطراف دولية أكثر مما تخدم مصلحة الشعب الليبي.
التدخلات الخارجية.. تجاوز للأعراف أم خطر داهم؟
لقاء سفراء أجانب بمسؤولي المؤسسات السيادية الليبية خارج الأطر الدبلوماسية التقليدية لم يكن أمرًا جديدًا، لكنه ظل يثير موجة من القلق حول انعكاساته على استقلالية هذه المؤسسات. فالنويري، الذي يدرك تمامًا حساسية هذه المسألة، أوضح أن مثل هذه اللقاءات تتجاوز الأعراف الدبلوماسية المتعارف عليها، وتشكل تدخلاً مباشرًا في الشأن الليبي.
وهنا يبرز تساؤل هام: إذا كانت هذه اللقاءات تُعقد بحجة “التنسيق والدعم”، فلماذا لم تسهم في استقرار الوضع الليبي حتى الآن؟ بل على العكس، كلما زاد التدخل الخارجي، زادت حدة الانقسامات الداخلية، وازدادت الأزمة الاقتصادية تعقيدًا.
الوهم السياسي.. دروس من الماضي القريب
لطالما اعتمد بعض السياسيين الليبيين على دعم خارجي لتحقيق مكاسب داخلية، لكن التجارب أثبتت أن هذا التعويل لم يجلب سوى مزيد من التعقيد، ولم يحل أي أزمة حقيقية. وكما أشار النويري، فإن التاريخ القريب لم يسجل أي حالة تمكنت فيها القوى الخارجية من حماية مسؤول ليبي، ما يجعل الرهان على التدخلات الأجنبية وهمًا سياسيًا بامتياز.
المتتبع لمسار الأوضاع في ليبيا يدرك أن أي تدخل خارجي، مهما بدا “إيجابيًا” في ظاهره، فإنه يحمل في طياته مصالح لا تتقاطع بالضرورة مع مصلحة المواطن الليبي. فبينما يدفع الليبيون ثمن هذه التدخلات من استقرارهم السياسي واقتصادهم الوطني، تبقى القوى الخارجية مستمرة في لعبة المصالح، غير عابئة بما يخلفه هذا التدخل من تداعيات كارثية على الأرض.
مجلس الأمن والبعثة الأممية.. هل يؤثران على السيادة الليبية؟
لطالما كانت قرارات مجلس الأمن محل جدل واسع في المشهد السياسي الليبي، فبين من يراها أداة لتنظيم المرحلة الانتقالية ومن يعتقد أنها تُستخدم كوسيلة للضغط على مؤسسات الدولة، يظل النقاش حول مدى تأثيرها على السيادة الليبية قائمًا.
النويري، في حديثه، لم ينكر أن قرارات مجلس الأمن قد تشكل عاملاً مؤثرًا في التوازنات السياسية، لكنه شدد على أن هذه القرارات لا يمكن أن تنتقص من السيادة الوطنية، إذ تبقى الكلمة الأخيرة لليبيين أنفسهم في رسم ملامح مستقبل بلادهم.
أما البعثة الأممية، فهي الأخرى محل جدل متزايد، إذ يطالب الليبيون بأن تلتزم بدورها كمجرد “بعثة دعم”، دون أن تتحول إلى طرف فاعل في المعادلة السياسية. فالسيادة الليبية، كما يرى النويري، لا تقبل القسمة أو التفويض، وما لم يكن هناك موقف حازم تجاه تجاوزات البعثة الأممية، فقد يتحول دورها من مساند إلى وصيّ غير مباشر على القرارات الليبية.
السيادة الوطنية.. معركة يجب أن تُحسم
الملف الليبي كان ولا يزال ميدانًا لصراعات دولية وإقليمية، حيث تسعى كل قوة إلى تحقيق نفوذ معين على حساب إرادة الشعب الليبي. ومع ذلك، فإن التجربة أثبتت أن الاستقرار لا يمكن أن يُفرض من الخارج، بل هو نتيجة حتمية لقرار داخلي ينبع من إرادة وطنية خالصة.
وعليه، فإن موقف النويري يمثل جرس إنذار جديد لكل من يحاول العبث بالسيادة الليبية، مؤكدًا أن الليبيين وحدهم هم من يحددون مصيرهم، بعيدًا عن أي ضغوط أو حسابات خارجية. فكما أن السيادة ليست شعارًا، فهي أيضًا ليست خيارًا يمكن التفاوض حوله، بل هي المبدأ الأول والأخير الذي يجب أن يُحترم في أي حل سياسي قادم.
خاتمة
ليبيا اليوم أمام مفترق طرق جديد، حيث تُختبر قدرة مؤسساتها على الصمود في وجه التدخلات الخارجية، ويُقاس مدى وعي نخبها السياسية بخطورة الارتهان للضغوط الدولية. ومع استمرار الجدل حول مستقبل مصرف ليبيا المركزي ومؤسسات الدولة الأخرى، يبقى التحدي الأكبر هو الحفاظ على استقلالية القرار الليبي، لأن أي تهاون في هذه المعركة يعني فتح الباب أمام المزيد من الفوضى وعدم الاستقرار.
السيادة الوطنية ليست مجرد كلمة في بيان سياسي، بل هي مبدأ يجب أن يُترجم إلى أفعال ومواقف حاسمة، لأن فقدانها يعني فقدان كل شيء.