في شوارع طرابلس المزدحمة، كانت الأجواء هادئة نسبيًا حتى انفجرت مواقع التواصل الاجتماعي بمقطع فيديو أشعل فتيل أزمة جديدة في ليبيا. في المشهد القصير، يظهر مجموعة من الرجال يرتدون زي وزارة الداخلية لـ حكومة الدبيبة منتهية الولاية، وهم يدوسون العلم الأمازيغي بأقدامهم، وكأنهم يدوسون هوية بأكملها، لا مجرد قطعة قماش ملونة.
الشرارة الأولى:
انتشر الفيديو كالنار في الهشيم، ومع كل مشاركة وتعليق، كان الغضب يتصاعد. لم يكن الأمر بالنسبة للأمازيغ مجرد اعتداء مادي، بل صفعة قوية على وجوههم وهويتهم. فجأة، أصبح علم الأمازيغ رمزًا للصراع بين حكومة تبدو عاجزة عن احتواء أزماتها الداخلية وشعب يشعر بأنه مُستهدف في كرامته ووجوده.
جادو وزوارة… صوت الغضب:
في مدينة جادو، لم يستغرق الأمر وقتًا طويلًا حتى خرج بيان ناري يتهم حكومة الدبيبة منتهية الولاية ووزير داخليته عبدالله الطرابلسي بالمسؤولية المباشرة عن هذه “الجريمة العنصرية”. البيان كان واضحًا وصادمًا: “دهس العلم الأمازيغي ليس مجرد تصرف فردي بل عمل ممنهج يعكس نية الإقصاء والتطهير العرقي”. كلمات خطيرة تحمل في طياتها دعوات صريحة للمحاسبة والاعتذار العلني، وإلا فالنتائج قد تكون كارثية.
في المقابل، بلدية زوارة لم تكتفِ بالإدانة فقط، بل أطلقت مبادرة لرفع العلم الأمازيغي في كل زاوية وشارع في المدينة، وكأنها تعلن تحديًا صارخًا لسياسات الإقصاء والتمييز.
حكومة الدبيبة… صمت أم تورط؟
وسط هذه العاصفة، يلتزم عبد الحميد الدبيبة، رئيس الحكومة منتهية الولاية، الصمت. لا بيان رسمي ولا كلمة اعتذار. وكأن الحكومة تراقب الوضع من بعيد، متمنية أن تمر العاصفة دون أن تترك وراءها دمارًا أكبر. لكن الصمت أحيانًا أقسى من الكلمات. فالمشهد يبدو وكأن الحكومة إما عاجزة عن السيطرة على أجهزتها الأمنية أو أنها تتواطأ في الخفاء مع قوى تسعى لتهميش الأمازيغ.
عبدالله الطرابلسي… في مرمى النيران:
وزير الداخلية، عبدالله الطرابلسي، وجد نفسه فجأة في قلب العاصفة. اتهامات مباشرة بالعنصرية والتحريض، ودعوات متزايدة لإقالته فورًا. بالنسبة للأمازيغ، الطرابلسي لم يعد مجرد مسؤول حكومي، بل أصبح رمزًا للتمييز والاضطهاد.
خالد المشري… دعوة للتحقيق أم مناورة سياسية؟
رئيس المجلس الأعلى للدولة، خالد المشري، لم يفوت الفرصة للمزايدة السياسية. خرج سريعًا ليطالب بفتح تحقيق عاجل في الحادثة ومحاسبة المسؤولين. لكن السؤال الذي يتردد في الشارع الليبي هو: هل فعلاً يسعى المشري للعدالة؟ أم أنه مجرد استغلال سياسي للأزمة لتعزيز نفوذه؟
ليبيا بين الانقسام والوحدة:
هذه الحادثة ليست الأولى التي تكشف هشاشة النسيج الاجتماعي الليبي، لكنها ربما الأخطر. فدهس علم الأمازيغ لم يكن مجرد اعتداء على قطعة قماش، بل كان محاولة – سواء متعمدة أو غير ذلك – لدوس هوية مكون أصيل من ليبيا. والكارثة الكبرى أن حكومة الوحدة الوطنية التي من المفترض أن تكون رمزًا للوحدة والانصهار بين مكونات المجتمع، باتت اليوم جزءًا من الأزمة نفسها.
أزمة هوية أم صراع سلطة؟
السؤال الأهم اليوم: هل ما يحدث هو صراع على الهوية؟ أم مجرد انعكاس لصراع سياسي أكبر؟ البعض يرى أن الحكومة تتعامل مع الأمازيغ وكأنهم مواطنون من الدرجة الثانية، بينما يرى آخرون أن الأزمة تتعلق أساسًا بالفوضى التي تعصف بالمؤسسات الأمنية في ليبيا، حيث تعمل الأجهزة دون رادع أو رقابة حقيقية.
الأمازيغ… بين المقاومة والخوف:
رغم الغضب العارم، يواجه الأمازيغ معضلة حقيقية: كيف يردون دون الانزلاق إلى فتنة أكبر قد تهدد وحدة البلاد؟ فهم بين خيارين أحلاهما مر: السكوت على الإهانة أو التصعيد الذي قد يؤدي إلى صدامات دموية.
الدبيبة… على مفترق طرق:
الكرة الآن في ملعب عبد الحميد الدبيبة. أمامه خياران لا ثالث لهما: إما اتخاذ موقف حازم بإقالة المسؤولين المتورطين وفتح تحقيق شفاف يعيد بعض الثقة لحكومته، أو الاستمرار في الصمت والمراوغة، مع المخاطرة بتصعيد شعبي قد يتجاوز الأمازيغ إلى باقي مكونات المجتمع الليبي.
الوحدة الليبية على المحك:
ليبيا اليوم أمام مفترق طرق خطير. فتكرار مثل هذه الحوادث قد يقود البلاد إلى انقسام أعمق ويزيد من صعوبة تحقيق المصالحة الوطنية. لكن إذا تعاملت الحكومة بحكمة وشجاعة، قد تكون هذه الأزمة فرصة لتعزيز الوحدة والاعتراف بجميع مكونات ليبيا دون استثناء.
في النهاية، ليبيا بحاجة إلى صوت العقل والحكمة قبل أن تشتعل نيران الفتنة. فدهس العلم الأمازيغي لم يدس فقط على قطعة قماش، بل كاد يدوس على حلم ليبيا الموحدة.