في قلب الجبل الغربي، حيث تحتضن الطبيعة الصامتة مدينة الأصابعة، اشتعلت نيران غامضة في منازل السكان. تكررت المشاهد المرعبة: ألسنة لهب تتراقص فجأة بين الجدران، دون سابق إنذار أو تفسير واضح. وبينما هرع الأهالي إلى الشوارع مذعورين، انقسمت الآراء بين من يؤمن بأن الحريق مجرد ظاهرة طبيعية أو نتيجة إهمال، وبين من وجد ضالته في الغيب، متحدثًا عن قوى خفية لا تُرى.
هل تسلل الجهل إلى عقول الناس؟ أم أن الواقع يحمل تفسيرًا أكثر منطقية؟
منذ أيام، تعيش مدينة الأصابعة على وقع حريق غامض. أكثر من 15 منزلًا طالتها ألسنة اللهب دون وجود تفسير دقيق. وبينما كان السكان يكافحون النيران بوسائلهم البدائية، لم تكن سيارات الإطفاء كافية، حيث صرح عميد البلدية عماد المقطوف: “لا نملك سوى سيارة إطفاء واحدة لمواجهة هذه الأزمة”.
يصف أحد السكان المشهد قائلًا: “كلما أطفأنا الحريق في منزل، اشتعل في منزل آخر على بُعد مئات الأمتار!”. ويضيف آخر: “لا نعرف إن كان ذلك بسبب تسرب غاز أو بسبب أمر آخر غير مفهوم”.
وسط هذه الفوضى، طُرحت عدة فرضيات حول السبب الحقيقي للحرائق. رأى البعض أن هناك تسربًا للغاز من باطن الأرض، بينما ألقى آخرون باللوم على السحر والشعوذة، مستعيدين روايات عن “الجن” الذي ينتقم من البشر.
جاب الله الشيباني، عضو مجلس النواب، كان حاسمًا في موقفه: “ما يجري في الأصابعة لا علاقة له بالجن أو السحر، بل يحتاج إلى تحقيق علمي معمق من قبل المختصين في الجيولوجيا والكيمياء”.
وفي السياق ذاته، أكد سالم الرميح، رئيس نقابة عمال النفط، أن “تسرب الغاز من باطن الأرض احتمال وارد، خاصة أن ليبيا غنية بالغاز الطبيعي”، مضيفًا أن “الأمر بحاجة إلى دراسة من قبل خبراء متخصصين”.
لم يكن غياب التفسير العلمي السريع هو المشكلة الوحيدة، بل إن ضعف إمكانيات أجهزة الطوارئ ساهم في تفاقم الموقف. فوفقًا لرئيسة لجنة الطوارئ، انتصار القليب، “تم توجيه نداء استغاثة لجميع الجهات المعنية، لكن الوضع لا يزال كارثيًا”.
وأمام هذا الفراغ، انتشرت تفسيرات غارقة في الغموض، حيث تحدث البعض عن “جن غاضب”، مشيرين إلى أن الحرائق بدأت بعد قيام بعض الباحثين عن الكنوز بنبش أحد المواقع. “قد يكون هذا عقابًا من العالم الخفي”، يقول أحد الأهالي، متأثرًا بما يسمعه في محيطه.
هذه الحوادث ليست الأولى من نوعها في ليبيا. على مدار السنوات الماضية، تكررت حوادث مماثلة، ووجد البعض في السحر والشعوذة تفسيرًا سهلًا لأي أمر غير مفهوم. لكن المعضلة الحقيقية تكمن في أن غياب الدولة وانعدام الثقة في المؤسسات يدفع الناس إلى البحث عن إجابات بديلة، حتى وإن كانت غير منطقية.
يعلق الباحث الاجتماعي محمد زيدان على هذه الظاهرة قائلًا: “عندما يغيب الوعي العلمي ويضعف أداء الدولة، يبدأ الناس في البحث عن إجابات خارج نطاق الواقع، ما يُكرّس حالة من الجهل والخرافة”.
لا تزال النيران تشتعل، لكن الحلول لا تزال بعيدة المنال. يتفق الخبراء على أن الأزمة تستوجب تحقيقًا علميًا دقيقًا، وتوفير إمكانيات أفضل لمواجهة الكوارث. يقول أحد المهندسين المختصين في البيئة: “يجب إرسال فرق متخصصة لمعاينة التربة والهواء، وتحليل الأسباب الحقيقية وراء هذه الحرائق”.
لكن السؤال الأهم: هل ستتحرك الجهات الرسمية بسرعة كافية؟ أم أن النيران ستظل تلتهم المنازل بينما يستمر البعض في البحث عن تفسيرات غيبية لا تسمن ولا تغني من جوع؟
حرائق الأصابعة ليست مجرد أزمة مؤقتة، بل تعكس واقعًا أوسع: دولة عاجزة، وإمكانيات ضعيفة، وثقافة مجتمعية عالقة بين الماضي والمستقبل. قد يكون السبب علميًا، وقد يكون مرتبطًا بالإهمال أو العوامل الطبيعية، لكن المؤكد أن الحل لن يأتي من مشعوذ يحمل “تعويذة”، بل من مختبر يقوده العلماء والخبراء.
فهل تكون هذه الحرائق درسًا يوقظ الوعي، أم أنها مجرد حلقة أخرى من مسلسل الجهل والتخلف؟