في قصر الإليزيه، حيث تتخذ فرنسا قراراتها الاستراتيجية، جرت واحدة من اللقاءات التي تعكس متغيرات المشهد الليبي، واستقبال الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون للقائد العام للقوات المسلحة الليبية، المشير أركان حرب خليفة حفتر، لم يكن مجرد حدث بروتوكولي، بل دلالة على أبعاد أعمق، سواء في حسابات باريس، أو في معادلات التوازنات الإقليمية.
تدرك فرنسا، وهي إحدى القوى الدولية المنخرطة في المشهد الليبي، أن استقرار البلاد لا ينفصل عن الدور الذي تلعبه المؤسسة العسكرية الليبية، لا سيما في تأمين الحدود الجنوبية ومكافحة الإرهاب والجريمة المنظمة. ومن هنا، تأتي هذه الزيارة في إطار إعادة التموضع الفرنسي في المنطقة، بعد أن شهدت باريس تراجعًا نسبيًا في نفوذها داخل أفريقيا، مع بروز قوى أخرى تسعى لملء الفراغ.
لقد شكل الجيش الليبي، بقيادة المشير حفتر، حجر الزاوية في محاربة الجماعات الإرهابية وتأمين الحدود الليبية مع تشاد والنيجر والسودان والجزائر، وهو ما جعله شريكًا موثوقًا للعديد من الدول الأوروبية. ولهذا، فإن الاهتمام الفرنسي بالمؤسسة العسكرية الليبية ليس وليد اللحظة، بل هو جزء من رؤية أوسع تسعى باريس لترسيخها في سياستها الخارجية تجاه ليبيا.
لم تكن المباحثات بين المشير حفتر وماكرون مقتصرة على الأبعاد الأمنية فقط، بل تناولت العملية السياسية، وهو ما يعكس إدراك باريس لأهمية دور الجيش الليبي في تحقيق الاستقرار، ليس فقط من خلال العمليات العسكرية، ولكن أيضًا من خلال دعم جهود التفاوض والانتخابات. ولعل الملف الانتخابي كان أحد أبرز النقاط المطروحة، حيث تظل مسألة انتشار السلاح وضرورة حصره بيد الدولة عاملاً حاسمًا في نجاح أي استحقاق سياسي.
فرنسا، التي كانت أحد الفاعلين الرئيسيين في الملف الليبي منذ عام 2011، تجد نفسها اليوم أمام مشهد أكثر تعقيدًا، خاصة بعد التغيرات التي طرأت على نفوذها في دول الساحل الأفريقي. ولذلك، تسعى باريس لتعزيز وجودها في ليبيا عبر شراكات اقتصادية وأمنية، معولةً على الاستقرار الذي تراه ممكنًا بفضل الدور المتنامي للمؤسسة العسكرية.
وعلى المستوى الاقتصادي، تدرك فرنسا أن ليبيا مقبلة على مرحلة إعادة إعمار واسعة، وأن هناك فرصًا استثمارية ضخمة في قطاعات النفط والبنية التحتية، وهي مجالات لطالما كانت الشركات الفرنسية فاعلة فيها. لذا، فإن دعم الاستقرار ليس مجرد موقف دبلوماسي، بل هو جزء من استراتيجية فرنسية لحماية مصالحها الاقتصادية.
لم يعد الاهتمام الدولي بالمؤسسة العسكرية الليبية مقتصرًا على فرنسا، فقد شهدت الآونة الأخيرة زيارات متكررة لمسؤولين أمريكيين وأوروبيين إلى القيادة العامة في الرجمة، وهو ما يعكس تغيرًا في النظرة الدولية لدور الجيش الليبي. فبعد سنوات من الصراع والانقسام، بات واضحًا أن المؤسسة العسكرية هي الضامن الأساسي للأمن، وهو ما يدفع القوى الدولية إلى تعزيز التعاون معها.
وفي ظل هذا الاهتمام الدولي، تبقى التحديات أمام الجيش الليبي قائمة، خاصة فيما يتعلق بتوحيد المؤسسة العسكرية وإعادة تأهيل القوات وفق رؤية وطنية مستقلة. لكن ما لا جدال فيه، هو أن الجيش الليبي أثبت قدرته على فرض الأمن ومكافحة الإرهاب، وهو ما يجعله اليوم جزءًا من أي معادلة دولية تسعى لإعادة الاستقرار إلى البلاد.
اللقاء بين المشير حفتر وماكرون قد يكون خطوة نحو شراكة استراتيجية، تتجاوز مجرد التعاون الأمني إلى أفق أوسع من المصالح المشتركة. فباريس التي تبحث عن نفوذ متجدد في ليبيا، تجد في القيادة العامة شريكًا قادرًا على تحقيق معادلة الاستقرار، فيما يرى الجيش الليبي في فرنسا قوة دولية يمكنها لعب دور داعم في الملفات السياسية والعسكرية.
ومع استمرار التحركات الدولية تجاه الملف الليبي، يبقى السؤال: هل نشهد في الفترة المقبلة انخراطًا فرنسيًا أكبر في دعم الاستقرار؟ وهل تعكس هذه الزيارة بداية مرحلة جديدة من التعاون بين باريس والقيادة العامة للجيش الليبي؟ الإجابة ستتضح مع مرور الوقت، لكن المؤكد أن هذه الزيارة لم تكن مجرد لقاء بروتوكولي، بل محطة مهمة في مسار إعادة رسم العلاقات الدولية مع ليبيا.