النويري وإعادة خلط الأوراق: هل تهدد دعوته استقرار ليبيا؟
لم يكن بيان النائب الأول لرئيس مجلس النواب، فوزي النويري، مجرد تصريح عابر في زحام المشهد الليبي المأزوم، بل كان بمثابة حجر ألقي في بركة راكدة، ففجّر دوائر من الجدل والاصطفاف السياسي. بدعوته إلى انتخابات برلمانية عاجلة، أعاد النويري رسم خطوط الصراع بين من يرى في خطوته “نداءً لإنقاذ الوطن”، وبين من يعتبرها “خرقاً للتوافق المبدئي” الذي أرساه البرلمان بشأن تزامن الانتخابات التشريعية والرئاسية.
في مشهد بدا وكأنه جزء من استراتيجية مدروسة، نشر المتحدث باسم مجلس النواب، عبد الله بليحق، بيان النويري على صفحته الرسمية، قبل أن يتم حذفه لاحقاً، وكأن أطرافاً في البرلمان تراجعت عن تبنيه أو خشيت عواقبه. لكن رغم الحذف، كان تأثير البيان قد تجاوز حدود النشر الافتراضي، إذ بدأ صراع التأويلات حول دلالاته وأهدافه.
لم يكن مجلس النواب ليظل صامتاً أمام هذا الطرح المفاجئ، فجاءت ردود الأفعال سريعاً، وأبرزها موقف حسن الزرقاء، عضو مجلس النواب، الذي وجه انتقاداً لاذعاً لدعوة النويري، مؤكداً في تصريحات صحفية رصدتها “أخبار ليبيا 24” ، أن “البرلمان لن يتراجع عن موقفه المعلن، المتمسك بتزامن الانتخابات الرئاسية والتشريعية”، وهو تأكيد يعكس عمق الخلافات داخل المؤسسة التشريعية نفسها.
يتساءل كثيرون: هل كان بيان النويري موقفاً مؤسساتياً أم مجرد رأي شخصي؟ الزرقاء لم يتردد في الإجابة، موضحاً أن “قرارات البرلمان تصدر عبر التصويت في الجلسات، لا من خلال بيانات فردية”، وهو تلميح إلى أن دعوة النويري قد لا تجد صدى في أروقة البرلمان، بل ربما تزيد الشرخ داخله.
ليس موقف الزرقاء رفضاً للمبادرة من باب المعارضة لمجرد المعارضة، بل هو تحذير من إعادة إنتاج تجارب الماضي. “الاكتفاء بإجراء الانتخابات التشريعية فقط يعد استنساخاً لتجارب سابقة، ولن يقود لاستقرار البلاد”، يقول الزرقاء. وهنا يستحضر المتابعون سيناريو 2014، حين أدى إجراء انتخابات برلمانية منفصلة دون مسار رئاسي واضح إلى أزمات متعددة، ساهمت في تفكك المشهد السياسي والعسكري.
لكن المخاوف لا تقف عند حد التجربة التاريخية، بل تتسع لتشمل واقعاً أكثر خطورة: “التخوف من نجاح قيادات المجموعات المسلحة، أو شخصيات قريبة منها، في السيطرة على مقاعد البرلمان القادم”، كما أشار الزرقاء، محذراً من أن نفوذ المجموعات المسلحة وارتفاع معدلات الفساد قد يخلقان برلماناً يصبح أداة بيد قوى غير شرعية.
على الجانب الآخر، يرى النويري أن الأزمة ليست في إجراء انتخابات تشريعية أولاً، بل في “استمرار تعطيل المسار الانتخابي بسبب مصالح ضيقة”، متحدثاً عن أطراف لم يسمها تعرقل الاستحقاق الانتخابي خوفاً من فقدان نفوذها. وهنا يبرز التساؤل: هل دعوة النويري تمثل محاولة لفك الحصار عن العملية الانتخابية، أم أنها خطوة قد تزيد من تعقيد المشهد؟
ليبيا اليوم ليست جزيرة منعزلة، بل ساحة مفتوحة لتقاطع المصالح الإقليمية والدولية، وهو ما يجعل أي دعوة سياسية، مهما بدت داخلية، خاضعة لحسابات أبعد من الفاعلين المحليين. فبينما يرى البعض في مبادرة النويري خطوة نحو إعادة الشرعية لمؤسسات الدولة، يخشى آخرون أن تكون مجرد “ممر آمن” لتمرير أجندات خارجية، تسعى إلى تكريس وجودها عبر طبقة سياسية جديدة أكثر مواءمة لمصالحها.
ما بين دعوة النويري واعتراضات البرلمان، يبقى السؤال الأهم: هل يمكن حل الأزمة الليبية عبر تجزئة الاستحقاقات السياسية؟ يبدو أن الإجابة ليست بهذه البساطة، فالتجربة تؤكد أن محاولات الحلول الجزئية لم تفلح سوى في إطالة عمر الأزمات. وعليه، فإن أي خطوة لا تستند إلى توافق وطني واسع، قد تكون مجرد إضافة جديدة إلى سلسلة التعقيدات التي تحيط بالمشهد الليبي.
في النهاية، تبقى ليبيا عالقة بين خيارات صعبة، حيث يُطرح التساؤل مجدداً: هل يمكن تحقيق الاستقرار عبر تجزئة المسار الانتخابي، أم أن الحل يكمن في توافق شامل يعيد بناء الدولة على أسس متينة؟ الأيام وحدها ستكشف الإجابة، لكنها بلا شك ستكون محفوفة بمزيد من الجدل والاصطفافات السياسية.