في خضم المشهد السياسي المتأزم في ليبيا، فجر النائب الأول لرئيس مجلس النواب، فوزي النويري، موجة جديدة من الجدل بإعلانه عن ضرورة إجراء انتخابات برلمانية عاجلة، متجاوزًا بذلك موقف مجلسه الذي لطالما تمسك بضرورة التزامن بين الانتخابات الرئاسية والتشريعية. هذه الدعوة لم تمر مرور الكرام، بل كشفت عن انقسامات حادة داخل المؤسسة التشريعية، وأعادت إلى الواجهة التساؤلات حول مدى واقعية فصل الانتخابات التشريعية عن الرئاسية في ظل الأوضاع الراهنة.
لم يكن مستغربًا أن يواجه تصريح النويري رفضًا صريحًا من أعضاء داخل مجلس النواب، حيث اعتبروا موقفه تعبيرًا عن رأي شخصي لا يُلزم المجلس، رغم نشره لعدة ساعات على الصفحة الرسمية للناطق باسم المجلس، عبد الله بليحق، قبل حذفه لاحقًا. ومن بين أبرز المعترضين، النائب حسن الزرقاء، الذي شدد على أن مجلس النواب لم يغيّر موقفه، وأن أي قرار يتعلق بالانتخابات يجب أن يُتخذ عبر تصويت رسمي داخل الجلسات، وليس عبر بيانات فردية.
الزرقاء ذهب إلى أبعد من ذلك، محذرًا من أن الاكتفاء بإجراء انتخابات تشريعية فقط، دون الرئاسية، ليس سوى إعادة استنساخ لتجارب سابقة لم تسفر عن استقرار سياسي حقيقي. كما أثار مخاوف من إمكانية استيلاء شخصيات مدعومة من مجموعات مسلحة على المقاعد البرلمانية، ما قد يؤدي إلى عرقلة مستقبل الانتخابات الرئاسية وإبقاء الوضع السياسي في حالة من الفوضى المستمرة.
من جانبه، برر النويري موقفه في بيان حمل عنوان “نداء لإنقاذ الوطن”، معتبرًا أن الإسراع بإجراء الانتخابات التشريعية يمثل ضرورة ملحة لاستعادة الشرعية السياسية، وترسيخ القرار الوطني المستقل، وقطع الطريق أمام التدخلات الخارجية. لكن اللافت أن النويري لم يحدد الآليات التي يمكن من خلالها تحقيق هذه الأهداف دون وجود سلطة تنفيذية موحدة.
وفي هذا السياق، لم يتأخر عضو مجلس النواب عبد المنعم العرفي ، في الرد، مشددًا على أن موقف النويري لا يعكس رؤية المجلس ككل، حتى في ظل حالة الانقسام المؤسسي والتدخلات الخارجية التي تعقد المشهد. العرفي ذهب في تصريحات صحفية رصدتها “أخبار ليبيا 24″ إلى أن الحل الجذري يكمن في انتخابات رئاسية تسبق التشريعية، باعتبار أن وجود رئيس منتخب سيسهم في توحيد المؤسسات، ويمهد الطريق نحو مرحلة سياسية أكثر استقرارًا.
بين مؤيد ومعارض، يظل السؤال الأساسي: هل يمكن إجراء انتخابات تشريعية بمعزل عن الرئاسية دون أن يؤدي ذلك إلى مزيد من الفوضى؟ الإجابة تبدو معقدة، خاصة في ظل تجارب سابقة أثبتت أن وجود برلمان دون رئيس للدولة يعمّق الانقسامات ويزيد من التجاذبات السياسية.
المحلل السياسي السنوسي إسماعيل يرى أن طرح النويري يعكس توجهات سياسية معينة، إذ يدعم رئيس حكومة الوحدة الوطنية، عبد الحميد الدبيبة، الذي يرفض تسليم السلطة إلا عبر انتخابات عامة. كما أشار إسماعيل إلى أن فكرة الاكتفاء بالبرلمانية فقط تطرح مخاطر سياسية، أبرزها غياب حكومة موحدة جديدة، ما يجعل من أي خطوة انتخابية غير مكتملة محفوفة بتحديات قد تزيد الوضع سوءًا.
من جانبه، أكد عضو المجلس الأعلى للدولة، علي السويح، أن الاجتماعات التي عقدت بين ممثلين عن مجلسي النواب والدولة في القاهرة لم تتطرق نهائيًا لفصل الانتخابات التشريعية عن الرئاسية، مشيرًا إلى أن القوانين التي أقرّتها لجنة “6+6” تنص بوضوح على تزامن الانتخابات، وبالتالي فإن أي محاولة لتغيير هذا المسار قد تواجه رفضًا سياسيًا واسعًا.
على الرغم من كل هذه النقاشات، يظل غياب دستور متفق عليه من أكبر العوائق أمام تحقيق انتخابات ناجحة. فحتى مع وجود برلمان جديد، لا يزال الخلاف حول الشروط القانونية للترشح للرئاسة يمثل عقدة أساسية في المشهد السياسي. السويح ذكّر بأن المؤتمر الوطني المنتهية ولايته ومجلس النواب الحالي فشلا في التوصل إلى توافق بشأن مشروع الدستور، وهو ما يرجح تكرار السيناريو نفسه مع أي برلمان جديد.
يبقى الموقف من الانتخابات المتزامنة حجر الزاوية في مستقبل البلاد السياسي، في ظل غياب توافق حقيقي بين القوى المتنافسة. وبينما تصرّ أطراف على أن إجراء الانتخابات التشريعية أولًا يمثل مخرجًا للأزمة، يرى آخرون أن الفصل بين الاستحقاقين ليس سوى خطوة أخرى في اتجاه مزيد من التعقيد والتشرذم. فما لم يتم تحقيق توافق سياسي حقيقي حول خارطة طريق واضحة، فإن ليبيا قد تكون أمام مشهد من التأجيلات المتكررة، والمزيد من التناحر السياسي، وغياب الاستقرار المنشود.