في قلب ليبيا، حيث تلتقي الرمال الذهبية بالسماء الزرقاء، تقع بلدية الأصابعة، تلك البقعة التي كانت يوماً ما هادئة، تحكي قصصاً عن تاريخ عريق وحياة بسيطة. لكن اليوم، تحولت هذه البلدية إلى مسرح لأحداث مروعة، حيث تلتهب النيران في منازل الأبرياء، تاركة وراءها دماراً مادياً ونفسياً يصعب إصلاحه.
بدأت القصة قبل أيام، عندما اندلعت النيران في عدة منازل بشكل مفاجئ، دون سابق إنذار. وبعد أيام من الجهود المضنية لإخمادها، عادت لتشتعل من جديد في اليوم الرابع، وكأنها وحش جائع لا يشبع. هذه الحرائق المتجددة لم تكتفِ بحرق الجدران والأثاث، بل أحرقت معها شعور الأمان الذي كان يعيشه السكان.
عماد المقطوف، عميد بلدية الأصابعة، وقف أمام الكاميرات بوجهٍ يعكس التعب والألم، ليعلن أن الأولوية الآن هي لفهم أسباب هذه الحرائق، قبل أي حديث عن التعويضات. كلماته كانت صادقة، تحمل في طياتها همّاً كبيراً: “التعويضات يمكن صرفها في أي وقت، لكن الوقوف على الأسباب هو الأهم لتفادي حالة الرعب والأذى النفسي الذي يتعرّض له غالبية السكان”.
هذه الكلمات لم تكن مجرد تصريح إعلامي، بل كانت صرخة استغاثة من رجل يشعر بثقل المسؤولية على كتفيه. المقطوف يعلم أن النيران لم تحرق المنازل فقط، بل أحرقت قلوب الناس، وتركتهم في حالة من الخوف والقلق الذي لا ينتهي. “لم يتضرر إلا عدد محدود قياساً بالعدد الإجمالي لسكان البلدية، لكن الجميع يتخوّف من اندلاع النيران، وهناك منازل اشتعلت أكثر من مرة”، هكذا وصف الوضع، وكأنه يحاول أن يشرح للعالم أن الخطر الحقيقي ليس في الدمار المادي، بل في الدمار النفسي الذي يتركه.
ولم يقف المقطوف مكتوف الأيدي، بل أشار إلى الجهود التي تبذلها الجهات المحلية والدولية لاحتواء الأزمة. “وصلت فرق الدعم والإغاثة من وزارتي الحكم المحلي والشؤون الاجتماعية، والمؤسسة الوطنية للنفط، وكذلك بعض البلديات القريبة منذ بداية الأحداث”، قالها بفخر، لكنه في الوقت نفسه دعا إلى المزيد من الدعم. “نحتاج إلى المزيد من سيارات الإسعاف وإطفاء الحرائق، والمزيد من أسطوانات الإطفاء لتوزيعها على أكثر من 11 ألف أسرة، خصوصاً في المناطق التي يتجدّد بها اشتعال النيران”.
هذه النداءات لم تكن مجرد طلبات عادية، بل كانت صرخة استغاثة من مجتمع يعاني. الأصابعة، التي كانت يوماً ما رمزاً للسلام، أصبحت اليوم رمزاً للألم والخوف. النيران التي تأكل الأخضر واليابس، تترك وراءها جراحاً لا تُندمل، وجروحاً نفسية تحتاج إلى وقت طويل للشفاء.
وفي خضم هذه الأزمة، يبقى السؤال الأكبر: ما هي الأسباب الحقيقية وراء هذه الحرائق المتجددة؟ هل هي مجرد حوادث عابرة، أم أن هناك يداً خفية تلعب في الخفاء؟ المقطوف يعلم أن الإجابة على هذا السؤال هي المفتاح لحل الأزمة، ولذلك فهو يصر على الاستعانة بفرق دولية للكشف عن الحقيقة.
الأصابعة اليوم ليست مجرد بلدية، بل هي قصة إنسانية تحكي عن صمود شعب في وجه الكوارث، وعن قوة إرادة تقف في وجه النيران. النيران قد تحرق المنازل، لكنها لن تحرق الإرادة، ولن تطفئ الأمل في غدٍ أفضل.