ليبيا بين معادلة الانقسام وسكون التسويات: أزمة ممتدة تتجذّر
تعيش ليبيا واحدة من أعقد الأزمات السياسية في المنطقة، حيث يتجدد الصراع لا من خلال جولات عنف، بل من خلال جمود قاتل يلتف حول مفاصل الدولة ويمنعها من استعادة توازنها. فعلى الرغم من مرور سنوات على آخر مواجهات كبرى، إلا أن هذا الهدوء الظاهري يخفي تحت سطحه حالة من الشلل السياسي العميق الذي لم تنجُ منه أي مؤسسة من مؤسسات الدولة.
المشكلة لا تكمن فقط في اختلاف الرؤى بين القوى المحلية، بل في بنية النظام السياسي ذاته، الذي بات عاجزًا عن توليد أدوات فعالة للحكم والإدارة. فالتوزيع المزدوج للصلاحيات بين أجهزة تنفيذية متنازعة، ومؤسسات تشريعية منقسمة ومتنازعة على الشرعية، قد أدى إلى تعطيل شبه كامل للقرارات المصيرية. وتحوّلت البلاد إلى ساحة مفتوحة للمناورات السياسية والمصالح الإقليمية المتضاربة.
في هذا السياق، أصبحت ليبيا رهينة لتوازنات دقيقة، تتحكم بها عوامل داخلية وخارجية على حد سواء. ففي الداخل، يرفض كل طرف التخلي عن مكاسبه السياسية والعسكرية، مما جعل أي محاولات للتقارب أو الحلول الوسط غير قابلة للتنفيذ. أما على الصعيد الدولي، فتبدو الجهات الفاعلة إما عاجزة عن فرض حلول ناجعة، أو متواطئة في الإبقاء على الوضع القائم حفاظًا على نفوذها ومصالحها الخاصة.
الأزمة الليبية اليوم ليست مجرد خلاف سياسي، بل هي منظومة من الأعطاب الهيكلية التي تمتد من التشريع إلى الاقتصاد. العجز المزمن في الميزانية، وغياب خطط اقتصادية واضحة، وازدهار اقتصاد موازٍ غير خاضع للمساءلة، جميعها مظاهر تبرز إلى السطح كلما ازدادت حدة الجمود السياسي.
ولا تقف التداعيات عند حدود الاقتصاد فقط، بل تتوسع لتشمل الجوانب الاجتماعية والمعيشية للمواطن الليبي، الذي بات يعاني من ضعف الخدمات، وفقدان الثقة في الدولة، والانفصام التام بين مراكز القرار وهموم الشارع.
الواقع الحالي ينبئ بأن الاستمرار في نفس المسار سيؤدي إلى نتائج كارثية. إذ أن غياب الحلول، في ظل احتدام الأزمات، يفتح المجال لاحتمالات انفجار شعبي أو عودة للغة السلاح، في مشهد يذكّر بمراحل مظلمة من تاريخ البلاد.
وإذا كانت هناك من فرصة للنجاة، فهي تكمن في إعادة صياغة النظام السياسي من جذوره، والبدء في مرحلة انتقالية جديدة ترتكز على التوافق الوطني الحقيقي، والعدالة في توزيع السلطة والثروات، وإنشاء منظومة رقابية تضمن الشفافية وتضع حداً للفساد.
ليبيا لا تحتاج فقط إلى انتخابات أو مؤتمرات حوارية شكلية، بل إلى عملية جراحية سياسية تعيد بناء الدولة وفق أسس تضمن استقرارها طويل الأمد.