ما إن أعلن تحالف “تأسيس”، بين قوات “الدعم السريع” و”الحركة الشعبية” (عبدالعزيز الحلو) وطوائف أخرى، عن مجلسه القيادي وتعيين رئيس وزراء الحلف، حتى غشي كثر في السودان هاجس أن بلادنا بحكومتها الموازية كما يقال، بصدد أن تكون “ليبيا ثانية”.
بدا تشبيه السودان بليبيا من جهة قيامها على حكومتين في يومنا الراهن، نوعاً من الفأل السيئ أكثر منه علماً سياسياً. فلم نخضع خصائص السودان العسكرية السياسة بعد لنظرة مستقلة لنرى إن كان يصدق عليه ما صدق على ليبيا. وهذه المجازفة في مقارنة أوضاع السودان بغيره من البلدان من رهاب المعارضة. فلطول انشغال صفوة الرأي والقلم في السودان بمعارضة نظم ديكتاتورية (35 عاماً في خدمة المعارضة من 69 عاماً منذ استقلال السودان) ساغ لهم عقد ما يطرأ لهم من مقارنات بين السودان وغيره كيفما اتفق. وليس المطلب هنا المطابقة في المقارنة بل رسم أسوأ السيناريوهات للنظام الذي يعارضونه ما لم يرجع عن أمر ما. وهذا ترويع للنظام المغضوب عليه بالإنذار لا النذر. فليس مهماً اقتراب رهاب المعارضة المقارن التحقق من السداد. فالمراد الترهيب.
وسنرى، متى أخذنا في تحليل الحقائق الجيوسياسية لكل من السودان وليبيا، أن مماثلاتهما التي جازت لجماعة مؤثرة في الصفوة السودانية محض أضغاث. فلم تجتمع طرابلس وبنغازي في دولة واحدة إلا قبل نحو 100 عام بخلاف دارفور في السودان.
أما الوجه الثاني فهو أن ليبيا، خلافاً للسودان، خاضت حربها الأهلية بالميليشيات من الطرفين وخلت من جيش قومي مهني كما عندنا. ومهما كانت قيمة هذين العاملين فهما مما لا بد أن يستصحبا متى قاربنا بين الوضعين في السودان وليبيا وإلا كانت المقارنة تجديفاً سياسياً.
لا تصدق مقارنة حكومات الضرار في ليبيا بحالنا المنتظرة لو أحسنا تحليل البنية السياسة التاريخية للبلدين. فبنغازي وطرابلس حقيقتان جيوسياسيتان كما ليس دارفور والخرطوم. فكانتا دولتين اعتزلت الواحدة الأخرى حتى ضمهما الاستعمار الإيطالي عام 1934 بعد غزوه ليبيا عام 1911. وهذا بخلاف ما حدث في السودان. حقاً جاءت دارفور متأخرة 18 عاماً إلى السودان الحديث بعد غزو بريطانيا له عام 1898. ولم تأت دارفور من وضعية حكم ذاتي أو ما شابه، بل جاءت إلى المستعمرة من وضع قبل بالتبعية للإنجليز لقاء جزية. فحين بلغ الإنجليز من غزوهم السودان توقفوا دون ضم دارفور وجعلوا عليها سلطاناً من أسرتها الحاكمة تاريخياً هو علي دينار، ودفع الجزية إقراراً منه بسيادة الإنجليز عليه. وخلص الإنجليز إلى حال التباعة تلك لأنهم استبعدوا إقليم دارفور واستكثروا النفقات التي تلزمهم بغزوه، وبخاصة إذا كان هناك من سيديره لهم بكلفة زهيدة، ولما خرج علي دينار عليهم موالياً تركياً عام 1916 قضوا عليه وأدرجوا دارفور ضمن السودان الإنجليزي – المصري.
تخبط المقارنة التي تنعقد برهاب المعارضة خبط عشواء. فتفزع، أو تُفزع، ناظرة إلى سطح الأزمة موضوع البحث دون تضاريس تراكيب داخلها وتاريخه. فلا تجد رهاب المعارضة يعد في ما يعقد من مقارنات بين السودان وليبيا حقيقة أن السودان، خلافاً لليبيا، تمتع بمؤسسة للقوات المسلحة احتفلت بعيدها المئوي هذا العام. وتراها قاتلت، وتقاتل، تحت سلسلة قيادة مهنية اعتصمت بها وهي خسرت أرضاً بعد أرض لـ”الدعم السريع” حتى استردت خسائرها واحدة بعد الأخرى. وتتوزع فروعها في أنحاء البلد وتقاتل دون وقوعها في يد “الدعم السريع” بقوة كما في الفاشر وبابنوسة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وليبيا خلاف هذا تماماً. فلم ينشئ العقيد معمر القذافي جيشاً في ليبيا إلا مكاء. فحين توسع فيه نفراً حل عقدة القيادة فيه بأحابيله في مثل تكوين “جماهيرية” الجنود التي تملك حق عدم إطاعة أوامر القيادة، علاوة على قيام التعيين فيه بمحاصصات قبلية. وأهمل الجيش بالكلية بعد هزيمته النكراء في تشاد. فألغى وزارة الدفاع نفسها ليرمي بثقله في حماية حكمه بالقوات الخاصة واحدة بعد أخرى حتى أنشأ الحرس الجماهيري في 1987-1988. وجعل القذافي على شبكاته الأمنية والعسكرية رجالاً من الدرجة الأولى في القرابة منه. وجاءت عناصرها الأخرى من القذاذفة، قبيلته، وحلفائها من مثل الورفلة والمغارثة.
ولما قامت الثورة خلال عام 2011 لم يكن بليبيا جيش بالمعنى المعروف. وملأت الفراغ الفرق الثورية المسلحة سيئة الظن بالجيش لخوفها من أن ينقلب عليها. ونتيجة لذلك لم تشرع قوى الثورة، التي لم تكن لها قيادة مركزية، في بناء منظومة عسكرية وأمنية. وبذلك صار السلطان في الدولة لهذه الفرق تتنافس في ما بينها على السيطرة على مرافق الدولة، وفي حيازة الأراضي، وجني المنافع لتمويل نفسها. فاستباحت، حين توحدت في “معركة الكرامة” ضد قوات حفتر، التي هي جيش بأمره، “البنك الوطني” لتصرف على نفسها صرف من لا يخشى الفقر.
كانت المقارنة بين السودان وغيره من الدول مما تدجج به المعارضة حجتها على حكومة الوقت المستبدة. فتسمع منهم مثلاً أن دولاً جاءت للاستقلال بعدنا عبرت بينما نحن لا نزال نرسف محلك سر. وهو نهج قريب مما تقول عنه الأعاجم “نجيلة الجيران خضراء دوننا”. بل سارت في الناس صيغة “كان بوسعنا أن نكون أول الأفارقة فاخترنا أن نكون طيش العرب” ممن أخذوا على سياسة السودان جنوحاً مبالغاً فيه للعرب. ويتداولونها على ما فيها من غضاضة عرقية.
وبدا أن المقارنة مثل التي عرضنا لها مما يريد أصحابها لا يزال تدجيج معارضتهم لحكومة الأمر الواقع في بورتسودان كما يسمونها. فهي عندهم ضالعة في الحرب بلا هوادة لا ترضى دون هزيمة “الدعم السريع” بديلاً. فيلوحون لها بمحنة ليبيا، بين طرابلس وبنغازي، حتى ترعوي وتجنح للسلم منعاً لوقوع ما لا تحمد عقباه.
إذا خرجت صفوة القلم والفكر من عباءة رهاب المقارنة كيفما اتفق، ستجد أننا بلداً خرج لعقود من حكم استعماري كما خرجت أقوام أخرى بلا حصر نخوض وعثاء بناء الأمة الدولة في شرط تاريخي ودولي غير مؤات. وليس انقسام الدولة في هذا السبيل منكراً. فقد سبقت دولة بيافرا في نيجيريا إلى ذلك خلال الستينيات وعادت. وليس الحرب كذلك برذيلة شنعاء لا تغتفر. فها هي إثيوبيا في حرب مع نفسها بعد ما أذاع رهاب المعارضة علينا بلوغها الغاية من الإحسان في عهد ملس زيناوي في حين يتخبطنا شيطان الفرقة. وكانت ساحل العاج في يوم غير هذا، مضرب المثل في الاستقرار وما عادت.
قال كاتب عربي قديم “الأفكار غزلان والكتابة قيد”. والنظر إلى متاعب ما بعد الاستقلال لشعوب تخوض وعثاء بناء الأمة الدولة هو القيد على غزلان المقارنات العرجاء التي هي حيلة المعارض لا رجل الدولة.
يمكن قراءة الخبر من المصدر من هنا