إدريس احميد- ليبيا 24
ليبيا بلد بتركيبة اجتماعية متجانسة، شعب واحد بدين واحد ومذهب واحد، وتقاليد متقاربة. لكنها اليوم تعيش فجوة عميقة بين الوعي الفردي والدولة. مواجهة الليبيين للاستعمار الإيطالي وتجسيدهم للوحدة الوطنية في معركة القرضابية عام 1915، ثم الاستقلال المبكر عام 1951، ووضع دستور 1952، أظهرت قدرة المجتمع الليبي على بناء الدولة والمواطنة.
لكن الواقع المعاصر كشف غياب مشروع وطني حقيقي يضع الإنسان في مركز الاهتمام ويؤسس لدولة فاعلة توفر الحقوق الأساسية وتحمي المواطنين.
البعد التاريخي والسياسي
التجربة الملكية: محاولة بناء دولة المؤسسات، ووضع دستور ديمقراطي يضمن الحقوق الأساسية.
النظام الجمهوري: فرص كبيرة لم تُستغل رغم الإمكانات المتاحة.
النظام الجماهيري: تراجع الدولة المدنية وضعف دور المؤسسات المدنية رغم الإمكانات المتاحة.
ما بعد 2011: سقوط النظام دون قيام بديل مستقر، فوضى وانتشار الميليشيات، وتدخلات خارجية معقدة.
البعد الثقافي والاجتماعي: الثقافة والمعرفة أساس الوحدة أو الانقسام
مرت ليبيا بمراحل متعاقبة شهدت تغييرات سياسية واجتماعية انعكست على بنيتها الثقافية والمجتمعية. كل مرحلة حملت فرصًا لبناء دولة متماسكة، إلا أن ممارسات اجتماعية وأيديولوجية أدت إلى تعزيز الانقسام، التعصب، والمناطقية.
الثقافة المجتمعية والوعي
في العهد الملكي: تأثير التقاليد القبلية أضعف الهوية الوطنية رغم الاستقرار النسبي.
في العهد الجمهوري: محاولات بناء هوية وطنية اصطدمت بالمصالح المحلية، فبرز التعصب السياسي والمناطقي.
ما بعد فبراير: الفراغ السياسي والأمني أعاد تعزيز الانقسامات القديمة، وأظهر ضعف الوعي المجتمعي أمام الكراهية والعنف.
مفارقات العصر الثقافي والاجتماعي
البدايات الثقافية: المسرح منذ 1908، دعم الدولة بعد الستينيات، وجود مهرجانات ومسارح في درنة وطرابلس وبنغازي.
الوضع الحالي: اختفاء المسارح والمهرجانات، غياب البدائل الترفيهية والتعليمية.
البنية التحتية: غياب وسائل النقل العامة واعتماد المواطن على السيارات رغم غياب الطرق السريعة، ما يعكس خلل التخطيط وأثره على وعي المواطن ومشاركته في الدولة.
البعد الاقتصادي
اعتماد الدولة على النفط فقط، وغياب التنوع الاقتصادي.
سياسات سابقة ألغت القطاع الخاص وأقرت ثقافة الريع، مما ضخم الفساد المالي والإداري.
المواطن أصبح معتمدًا على الدولة، ما أثر على قدرته على المشاركة في التنمية.
البعد الأمني والعسكري
انهيار المؤسسة العسكرية بعد 2011، وانتشار السلاح والميليشيات.
عملية الكرامة في المنطقة الشرقية كانت خطوة لإعادة النظام، فواجهت الجماعات المسلحة التي وُصفت بالإرهابيين، والذين تلقوا دعمًا من أطراف داخلية وخارجية. ورغم أن الجيش الوطني كان يمتلك أقل الإمكانيات البشرية والعتاد، إلا أن العزيمة ومهارة القيادة سمحت له بهزيمتهم بعد حرب ضروس داخل الأحياء، بما يعرف بـ”حرب العصابات”.
قدم الجيش مئات الشهداء وتم تحرير بنغازي ودرنة، وتواصلت مهمة الجيش في جنوب البلاد في مساحة واسعة، وبسط الأمن والاستقرار وصولًا إلى وسط البلاد حتى مدينة سرت في الشمال. وقد تجسد الوعي الشعبي الذي دعم هذه العملية البطولية، لينعم المواطنون بالأمن والاستقرار والتنمية والأعمار.
هذا المثال يوضح أن غياب مؤسسة عسكرية منظمة يمنع أي تنمية أو ديمقراطية حقيقية.
البعد الدولي والإقليمي
المواقف العربية متباينة حسب المصالح: مصر، الجزائر، تونس، المغرب، ودول الخليج.
تدخل القوى الكبرى والأمم المتحدة أضاع أولوية الليبيين في بعض الحالات.
الفشل الأممي يعكس ضعف الإرادة الوطنية وقدرة الأطراف المعطلة على تعطيل الحلول.
المداخل الممكنة للحل
إعادة بناء الوعي والمعرفة المجتمعية عبر التعليم والثقافة والتنشئة الاجتماعية.
تطوير الإنسان أولًا قبل بناء الدولة: الصحة، التعليم، الثقافة، والوعي المدني.
إعادة الاعتبار للمؤسسة العسكرية لضبط الأمن ومنع الفوضى.
دعم الأحزاب الوطنية الحقيقية لمواجهة التعصب القبلي والمناطقي.
مشروع وطني جامع يقوم على المواطنة لا الولاءات الضيقة.
خاتمة
الأزمة الليبية اليوم ليست مجرد صراع سياسي أو تنافس على السلطة، بل تكمن في عمقها الثقافي والمعرفي. فضعف الثقافة المدنية، وغياب قيم المواطنة، وانتشار الأمية السياسية والمعرفية، جعل المجتمع أرضًا خصبة للانقسام والتعصب والمناطقية. وما نعيشه من فوضى ليس إلا انعكاسًا لغياب مشروع وطني يضع الإنسان في المركز.
بعد أكثر من أربعة عشر عامًا على إفشال الاستحقاقات الانتخابية – بدءًا من المؤتمر الوطني العام عام 2012، مرورًا بانتخابات 2014 وما تبعها من إقصاء الإسلام السياسي، وصولًا إلى تعطيل انتخابات 24 ديسمبر 2021 – أدرك الليبيون أن البلاد بحاجة إلى سلطة قوية قادرة على بسط الأمن والاستقرار، تسبق أي مسار انتخابي حقيقي. فالانتخابات في ظل انتشار السلاح خارج شرعية الدولة لن تكون سوى وهم سياسي.
إن بناء ليبيا العصرية يمر عبر مسارين متوازيين:
إعادة بناء الوعي والمعرفة ليصبح الانقسام استثناءً لا قاعدة، ويكون المواطن شريكًا واعيًا في بناء الدولة.
إعادة الاعتبار للمؤسسة العسكرية والأمنية لضمان الاستقرار وتمهيد الطريق أمام التنمية والديمقراطية.
ولا يمكن الحديث عن ديمقراطية حقيقية في غياب الوعي الثقافي؛ فالديمقراطية ليست مجرد صناديق اقتراع، بل سلوك ومسؤولية وممارسة يومية. وإذا كانت النخب المتعلمة متخلفة سلوكيًا، فلا يمكن التعويل على عامة الناس قبل إصلاح هذه النخب التي تمثل القدوة والمرجعية.
الخلاصة أن ليبيا تملك كل مقومات الدولة: شعب واحد، ثروة هائلة، وموقع استراتيجي. لكن هذه العناصر لم تُترجم إلى مشروع وطني بسبب قصور ثقافي ومعرفي حال دون التراكم الإيجابي للتجارب. ومن هنا، فإن ليبيا تستحق أن تكون دولة قوية وحديثة، لكن بشرط أن يسبق ذلك إصلاح الوعي الجمعي والنخبوي. وإلا ستبقى، كما هي اليوم، مجرد “دولة مؤجلة”.
يمكن قراءة الخبر من المصدر من هنا