اعتبر الباحث السياسي إبراهيم بالقاسم الحادثة الخطيرة التي شهدتها مدينة بني وليد، والمتمثلة في الهجوم الذي استهدف مقر اللواء 444 ووُصف بـ “الانتحاري -وفق ما أعلنه اللواء نفسه-، تمثل تحولاً نوعياً في طبيعة التهديدات الأمنية، كما أنها تُعددليلاً بالغ الخطورة على “الهشاشة الأمنية” و”التنافس غير المنضبط بين التشكيلات المسلحة”.
وأوضح بالقاسم في مداخلة تلفزيونية على قناة ليبيا الحدث، أن “خلفيات الحادثة لا تخرج عن احتمالين رئيسيين: الأول، أن تكون تعبيراً عن سخط شعبي عميق تجاه حالة الانفلات الأمني، ما دفع بعض الأطراف إلى اللجوء لأسلوب عنيف للتعبير عن غضبها. أما الاحتمال الثاني، فهو وجود تنظيمات إرهابية بدأت تستغل حالة التوتر بين المؤسسات الأمنية في غرب البلاد، وتتحرك في الظل لملء الفراغات الأمنية.
ودعا بالقاسم حكومة الدبيبة باعتبارها الجهة المبادِرة، وكذلك المجلس الرئاسي، إلى التحرك العاجل لإعادة ضبط المشهد الأمني، وتوحيد الأجهزة، وتفعيل دورها في مكافحة الإرهاب، مؤكداً أن “فرض سلطة الدولة بات ضرورة لا تحتمل التأجيل”.
وأضاف المحلل السياسي، أن “استهداف موقع يتبع رئاسة الأركان في غرب ليبيا يعكس بوضوح هشاشة الوضع الأمني”، مذكّراً بأن “دماء الليبيين لم تجف بعد من ضحايا العمليات الإرهابية السابقة”.
وأشار إلى أن العديد من البطولات سُجلت في مواجهة الإرهاب في عدة مدن، فقد “قام الجيش الليبي بدوره في بنغازي، فيما كانت قوة البنيان المرصوص حاضرة في سرت، كما تصدت الأجهزة الأمنية في صبراتة وطرابلس لخلايا إرهابية بعمليات نوعية دقيقة نفذها جهاز الردع”.
واستدرك بالقاسم محذّراً من خطورة المشهد الأمني الراهن في العاصمة طرابلس ومحيطها، لافتاً إلى أن “التنافس بات واضحاً بين القوى الأمنية التابعة للحكومة من جهة، وجهاز الردع من جهة أخرى”. مردفًا أن “حكومة الدبيبة تسعى إلى إعادة تشكيل المشهد الأمني بإزاحة المراكز العسكرية والسياسية المنافسة لها داخل العاصمة، في خطوة يرى أنها تمهيد لتسليم السلطة إلى حكومة موحدة تهيئ البلاد للانتخابات”.
وأوضح بالقاسم، أن “هذا التوجه يندرج ضمن خطة حكومية أكبر تهدف لإقناع المستثمرين الأجانب، خصوصًا الشركات الأمريكية، بأن الوضع الأمني مستقر بما يكفي لعودة النشاط الاقتصادي”. غير أن الباحث شكك في مصداقية هذه السردية، مؤكدًا أن “التوترات الحالية تقوّض هذه الوعود”.
وكشف عن تصور أمريكي قائم على فكرة إنشاء جيش وطني ليبي موحد، يتم تدريبه في الغرب الليبي بالاعتماد على المجموعات المسلحة المؤهلة، شريطة توفير بيئة مناسبة لذلك.
واعتبر بلقاسم أن قاعدة معيتيقة، ذات الطابع الاستراتيجي والبنية التحتية المتكاملة، تُعد المكان الأنسب لتنفيذ هذا المشروع، مستشهدًا بتاريخ القاعدة التي كانت قاعدة أمريكية منذ عام 1946 وتبلغ مساحتها نحو 700 هكتار.
وأشار إلى أن “هذه الرؤية تتطلب توافقًا بين الشرق والغرب عبر تشكيل مجلس عسكري موحد، إلا أن حكومة الدبيبة، بدأت باتخاذ خطوات عملية للسيطرة الكاملة على معيتيقة، من خلال المطالبة بتسليم المطار، والسجن القضائي، والموقوفين، بالإضافة إلى مطالبة الردع بمغادرة القاعدة نهائيًا.
وأكد بالقاسم أن “الحكومة لا تتحدث عن تفكيك الجهاز، بل عن نقله إلى موقع آخر، وهو ما وصفه بـ “الصعب تقنيًا وواقعيًا”، نظرًا للامتداد الشعبي للجهاز، خصوصًا في منطقة سوق الجمعة، بالإضافة إلى حساسية موقعه الحيوي داخل العاصمة.
وذكر أن “بعض مطالب الحكومة قد تم تنفيذها فعليًا، مثل تغيير إدارة مطار معيتيقة وتسليمه لمدير جديد تابع لمصلحة الطيران، إلى جانب استلام وزارة العدل للسجن القضائي المجاور، وإجراء النيابة العامة مراجعات داخلية في ملفات الموقوفين، في خطوات يرى مراقبون أنها تهدف إلى تقليص نفوذ جهاز الردع تدريجيًا”.
ورأي بلقاسم أن “الوضع في طرابلس لا يزال هشًا، وأن الصراع بين الأطراف المختلفة على المواقع الحيوية يعرقل أي تقدم فعلي نحو توحيد المؤسسة العسكرية، أو خلق بيئة آمنة مستقرة تمهّد الطريق نحو انتخابات طال انتظارها”.
وأوضح بالقاسم في تصريحاته أن “غالبية القوى العسكرية المنتشرة حالياً في طرابلس تابعة للحكومة، وتُقدر أعدادها بالآلاف”، مضيفاً أن من “بينها أيضاً جهاز الردع الذي يملك هو الآخر آلاف العناصر ويخضع للمجلس الرئاسي، إلا أن الإشكالية لا تتعلق فقط بعدد هذه القوات، بل في غياب رؤية أمنية موحدة لما بعد تسليم المواقع الحيوية، خاصة مطار معيتيقة”.
وأشار إلى “وجود حالة من التنافس، وربما حتى الصراع الخفي، بين أجهزة أمنية متعددة على مسألة التمركز داخل قاعدة معيتيقة بعد تسلّمها”، متسائلاً: “هل ستكون القوات القادمة من خارج طرابلس هي المسيطرة؟ أم جهاز 444؟ أم إدارة الاستخبارات العسكرية؟ أم جهاز الأمن العام؟”. واعتبر أن غياب التصور الأمني الواضح لهذه المرحلة يفتح المجال أمام تطورات غير محسوبة”.
وفي سياق آخر، كشف بلقاسم عن “وجود مفاوضات جرت مؤخراً بين حكومة الوحدة وبعض الأجهزة الأمنية”، واصفاً هذه المحادثات بـ “الجدية والرئاسية”، ومشيراً إلى أن “بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا لعبت دوراً إيجابياً وفعّالاً في هذا المسار من خلال دعم لجان التهدئة والتسوية، بهدف إنهاء حالة الصراع المستمرة في البلاد”.
كما عبّر بلقاسم عن مخاوف حقيقية من عودة الاحتراب في طرابلس، لافتاً إلى أن التحركات الأخيرة تحمل بعداً سياسياً يسعى البعض من خلاله إلى التأثير على المسار الأممي، إما من خلال السعي لتمديد الشرعية، أو لتحقيق مكاسب سياسية عبر ورقة العنف، التي وصفها بأنها “مرفوضة بكل ما تعنيه الكلمة”.
وأوضح بلقاسم أن حكومة الدبيبة، رغم وصفها لبعض الأجهزة بأنها “غير نظامية”، إلا أنها لم تقدم حتى الآن منهجية واضحة أو تقييمًا شفافًا للتعامل مع هذا الملف، مما يضعف من مصداقيتها على المستوى الشعبي وفي أعين المراقبين الدوليين.
وفي سياق مداخلته، وجّه بلقاسم انتقادًا صريحًا لما وصفه بـ “الازدواجية في تعامل حكومة الدبيبة مع ملف الجماعات المسلحة”، حيث قال إنها تدّعي تفكيك هذه الجماعات، لكنها في الواقع تقوم بتفريخها، في إشارة إلى إنشاء أجهزة أمنية جديدة وصدور عشرات القرارات بتشكيل قوات مسلحة في غرب ليبيا، الأمر الذي يُنذر باستمرار حالة الانقسام، ويعيق جهود توحيد المؤسسة العسكرية تحت راية واحدة”.
وأكد الباحث السياسي، أن “الوسطاء من طرابلس قد تواصلوا مع الجهات المعنية، بما في ذلك ممثلون عن البلديات والقوى السياسية والمدنية، بهدف تهدئة الأوضاع ومنع اندلاع صراع مسلح في المدينة”. مبيناً أن “كلا الطرفين، الحكومة وجهاز الردع، أكدا للوسطاء أن هناك حرصًا كبيرًا على تجنب أي حرب أو اشتباكات، معبّرين عن رغبتهم في تفادي الصراع بكل الوسائل المتاحة في هذه المرحلة الحساسة. وفي هذا السياق، نقل بلقاسم عن حكماء وأعيان من الساحة الغربية قولهم إنه لا نية لأي طرف، سواء من الزنتان أو جهاز الردع، الدخول في معركة عسكرية حالية”.
كما أكد بلقاسم أن “قوات الزاوية، بما فيها الجيش والعناصر الأمنية، لم تظهر أي نية للمشاركة في أي صراع محتمل، بل تسعى إلى حماية المدينة ورفض التصعيد”. إلى جانب ذلك، أشار “إلى وجود قوة كبيرة في تاجوراء ترفض بشدة الاشتباك المسلح، معتبرًا أن الرفض من قبل هذه الأطراف يعني عدم مشاركتها أو السماح بوقوع صراع قد يعقد الوضع أكثر”.
من جهة أخرى، أكد بلقاسم أنه “يمارس أقصى درجات الضغط على جهاز الردع لقبول الشروط المطروحة”، مشيرًا إلى “إدراك الجميع لثلاث مسائل أساسية: أولها أن الحكومة لن تستفيد من اندلاع حرب داخل طرابلس، إذ من المتوقع أن تتجاوز مدة الصراع المحتمل 72 ساعة، مما سيدفع المجتمع الدولي للتدخل وتفعيل لجنة “5+5″ إلى جانب استئناف الحوار السياسي”.
وأوضح ان “هناك تدخل إقليمي مباشر أو غير مباشر، أبرزها من الجانب التركي، حيث زار مسؤولون كبار من الاستخبارات التركية طرابلس عدة مرات، مؤكدين عدم رغبتهم في تفكيك جهاز الردع، بل طرحوا حلولًا لنقله بدلاً من ذلك”. في المقابل، “هناك قوى دولية أوروبية تدفع نحو حسم الأمر، خشية أن تؤدي حالة الهشاشة إلى توغل روسي في غرب ليبيا، مما قد يؤثر سلبًا على المصالح الأوروبية”.
وختم بلقاسم حديثه بالتأكيد على أن “المسألة الإنسانية يجب أن تكون في صلب أي معركة محتملة”، مشيرًا إلى “غياب الخطط التقليدية التي تعتمدها الدول عادةً مثل تنظيم الممرات الآمنة، الملاجئ، وأنظمة الإنذار المبكر، ما يجعل الوضع أكثر هشاشة وأهمية في ليبيا”.