أكد خالد الكاديكي، المستشار والخبير الاستراتيجي في التنمية الاقتصادية، أن مصرف ليبيا المركزي واجه خلال السنوات الأخيرة سلسلة من التحديات الكبيرة، تمثلت في الحفاظ على ثبات سعر صرف العملات، ومعالجة أزمة شح السيولة، فضلًا عن محاولات متواصلة لتحقيق توازن اقتصادي ونقدي من خلال سياسات مالية مدروسة.
وقال الكاديكي، في مقابلة مع قناة الوسط، إن قرار سحب فئة الخمسين دينارًا جاء نتيجة ثلاثة أسباب رئيسية، أبرزها أن هذه الفئة أصبحت تُتداول خارج الأطر الرسمية للمصرف المركزي، كما أنها لا توجد ضمن أرصدة المصارف التجارية، مما أضعف قدرتها على خدمة الدورة الاقتصادية الرسمية.
وأضاف الكاديكي، أن من بين الأسباب الأخرى لسحب هذه الفئة من السوق هو طباعة عدد كبير من أوراق الخمسين دينارًا خارج الأطر القانونية الدولية، مشيرًا إلى أن صندوق النقد الدولي كان قد نبه إلى أن طباعة العملة يجب أن تتم وفقًا للقوانين والاتفاقيات المعتمدة، لضمان مصداقية العملة الوطنية وقدرتها على الاستمرار ضمن النظام المالي العالمي.
كما تطرق الكاديكي إلى فئة العشرين دينارًا، مؤكدًا أنها تواجه نفس التحديات التي أحاطت بفئة الخمسين، إذ تم رصد كميات ضخمة منها خارج القطاع المصرفي، وتحديدًا في أيدي بعض التجار، وهو ما أضعف فعالية السياسة النقدية الرسمية وأدى إلى تشوهات في السوق النقدي.
ونوه بأن هناك ثلاث نسخ مختلفة من ورقة العشرين دينارًا، اثنتان منها تم طباعتهما خارج الأطر الشرعية، وتحديدًا في روسيا، مما أسهم في تعقيد المشهد المالي وزاد من الضغط على المصرف المركزي لتنظيم السوق النقدي.
وشدد الكاديكي على أن المصرف يعمل حاليًا على توحيد العملة المتداولة، في إطار استراتيجية أوسع بهدف استعادة السيطرة على الكتلة النقدية، وتحجيم تداول العملة خارج النظام المصرفي الرسمي، معتبرًا أن هذه الخطوة تمثل محورًا أساسيًا في دعم الاستقرار الاقتصادي والمالي.
وحذر الكاديكي من تداعيات غياب الرقابة الفعلية لمصرف ليبيا المركزي على السوق المحلية، مشيرًا إلى أن البنك لا يملك سيطرة حقيقية على حركة التجار، ولا على مكاتب الصرافة، الأمر الذي أدى إلى فوضى في الدورة النقدية داخل السوق الرسمية والموازية.
ورأي الكاديكي، أن هذه “الفوضى” ساهمت بشكل مباشر في تفاقم أزمة السيولة، الأمر الذي انعكس سلبًا على المواطن الليبي، والذي أصبح يواجه صعوبات متزايدة في التعامل بالعملة المحلية، خاصة في ظل رفض بعض المحال والأسواق قبولها، بسبب مخاوف من عدم إمكانية استبدالها بعملات أخرى في المستقبل القريب.
كما أشار إلى أن الثقة بين المواطنين والمصارف تراجعت بشكل ملحوظ، إذ بات كثيرون يتخوفون من عدم قدرتهم على سحب أموالهم المودعة، حتى وإن بلغت قيمتها مليون أو مليونين دينار، ما عمّق الشعور بعدم الأمان المالي لدى الجمهور.
كما كشف الكاديكي نية المركزي التوجه نحو الدفع الرقمي واستخدام الوسائل الإلكترونية كبديل للعملة الورقية، إلا أن هذا التوجه أثار بدوره مخاوف لدى التجار، خصوصًا أولئك الذين يعتمدون بشكل أساسي على استيراد السلع من الخارج عبر الدفع النقدي المباشر (الكاش)، وهو أمر بات من الصعب تنفيذه في الظروف الراهنة.
وأكد أن الانتقال إلى المنظومة الرقمية يتطلب بنية تحتية موثوقة وثقة متبادلة بين المواطن، المصارف، والتجار، وهو ما لا يتوفر حالياً، ما يجعل من الصعب تجاوز هذه التحديات في المدى القريب.
وفي سياق حديثه، بين إن الظروف التي رافقت عملية طباعة العملة الليبية، خاصة في ظل الانقسام الحكومي والمؤسسي، فرضت تحديات كبيرة على الاقتصاد الوطني، موضحًا أن غياب السيولة في المنطقة الشرقية جاء نتيجة توقف الإمدادات النقدية من مصرف ليبيا المركزي، مما اضطر السلطات هناك إلى طباعة عملة خارج إطار المصرف.
وأوضح الكاديكي، أن عملية الطباعة لم تكن تزويرًا صريحًا، بل تمّت في ظل غياب التنسيق مع المصرف المركزي، مما أدى إلى وجود نسختين مختلفتين من بعض الفئات النقدية، وهو ما أشار إليه تقرير المركزي دون تحديد عمليات تزوير دقيقة.
وتابع قائلاً إن هذه الإشكالية نشأت بسبب لجوء بعض الجهات إلى طباعة العملة بالاستناد إلى أصول الدولة الليبية، مستغلين الانقسام السياسي، ما أضطر مصرف ليبيا المركزي لاحقًا إلى معالجة تبعات هذه المخالفات، التي تسببت في أعباء كبيرة أمام المؤسسات الدولية، وعلى رأسها صندوق النقد الدولي، من خلال فرض رسوم إضافية على سعر الصرف لسداد الغرامات.
وأضاف أن طباعة العملة تمّت خارج الاتفاقيات الدولية، وتحديدًا خارج عقد يعود إلى العام 1980 مع شركات بريطانية مختصة بطباعة العملة الليبية، مما أثار جدلًا قانونيًا واسعًا، غير أن مصرف ليبيا المركزي – بحسب الكاديكي – تعامل مع هذه المسألة بإطار قانوني، وقام بسداد الغرامات اللازمة، واتخذ خطوات نحو توحيد العملة وتقليص الفجوة بين النسختين.
وأشار الكاديكي إلى أن المركزي أعلن عن خطة لضخ 30 مليار دينار، مقابل سحب 22 مليار من النسخة القديمة لفئة العشرين دينارًا، بهدف تحقيق التوازن النقدي. غير أن الأزمة لا تزال تؤثر على حياة المواطن، خاصة مع انعدام السيولة في المصارف التجارية، وتأجيل الدراسة بسبب ضعف الإمكانات المالية.
ولفت إلى أن فئة العشرين دينارًا تُعدّ الأكثر تداولًا في السوق، وهي المفضّلة لدى التجار لصغر حجمها وسهولة تنقلها، محذرًا من أن سحبها دون بديل كافٍ سيزيد من تفاقم الأزمة النقدية.
وأفاد الكاديكي، بأن الظروف الحالية تختلف كثيرًا عن ما يُخطط له نظريًا، داعيًا إلى مراجعة السياسات النقدية بما يتلاءم مع الواقع الفعلي، من أجل ضمان الاستقرار المالي في البلاد خلال الفترة المقبلة.
وأشار إلى أن المركزي بات الجهة الأكثر تأثيراً وسيادة في الدولة الليبية، متولياً أدواراً تتجاوز مهامه التقليدية، وذلك نتيجة الظروف الاستثنائية التي تمر بها البلاد، والانقسام الحكومي الذي عطّل آليات التخطيط والتنفيذ الاقتصادي، كما أنه أصبح مسؤولًا عن تجميع الإيرادات، وتوفير السيولة، وتغطية الإنفاق الحكومي، إلى جانب حماية الاحتياجات العامة، وإعداد الميزانية العامة، وتوفيرها للحكومة، وهي مهام يفترض أن تتوزع بين جهات مختلفة في الظروف الطبيعية.
كما لفت إلى أزمة السيولة النقدية الناتجة عن وجود كتلة ضخمة من العملة خارج النظام المصرفي، نتيجة انعدام الثقة في المصارف التجارية، ما أثر سلباً على دوران الأموال داخل المنظومة المصرفية. مشدداً على أن من أولويات المصرف اليوم إعادة الثقة بالنظام المصرفي، ورفع القيمة الفعلية للدينار الليبي أمام العملات الأجنبية.
وحول الإجراءات التي اعتمدها المصرف لمعالجة الوضع، أشار الكاديكي إلى استخدام سعر الصرف والاحتياطي من العملة الأجنبية كوسائل لتحقيق توازن مؤقت، واصفاً هذه السياسات بأنها حلول آنية وليست جذرية، مؤكدًا أن غياب خطة واضحة وعدم إشراك الخبراء والمكاتب الاستشارية يُعد من أبرز نقاط الضعف في تعاطي المصرف مع الأزمة.
وبيّن أن المصرف، بصفته الاستشارية، يُفترض أن يعمل مع وزارة التخطيط المالي لصياغة رؤية اقتصادية متكاملة، إلا أن الانقسام السياسي حال دون ذلك، ما أدى إلى تغول مهام المصرف لتشمل حتى تغطية البابين الأول والثاني في الميزانية، وحل مشكلات السيولة، والاحتياطي النقدي، وهي في الأصل من اختصاص السلطة التنفيذية.
وشدد على أن حل الأزمة الاقتصادية في ليبيا لا يمكن تحقيقه دون توحيد الحكومة، معتبرًا أن الاستقرار المالي يتطلب إنفاقًا موحدًا، وإيرادًا موحدًا، وسياسة مالية منسقة. وشبّه الوضع الحالي ببيتٍ متعدد الإنفاق والمداخيل، حيث تنعدم القدرة على السيطرة والحوكمة المالية.
وتمسك بضرورة وجود تنظيم شامل لآليات الإنفاق، التداول النقدي، ودوران الأموال داخل القطاعات الحكومية والمصرفية على حد سواء.