أكد الكاتب والصحفي محمود البوسيفي أن مدينة بنغازي كانت من المدن الرائدة في المجال الإعلامي على مستوى الوطن العربي، موضحًا أن أول إذاعة عربية انطلقت منها في العام 1959، بعد محاولة محلية سابقة في الأربعينات.
وأضاف، وأضاف في حوارية صحفية ببنغازي، أن “ليبيا كانت من أوائل الدول العربية التي شرعت في إنتاج الدراما التلفزيونية، إذ عرض أول مسلسل ليبي في العام 1969، متقدمة بذلك على دول الخليج والمغرب العربي، ولم تسبقها في هذا المضمار سوى مصر وسوريا”.
وتطرق البوسيفي إلى أبرز التحديات التي تواجه القطاع الإعلامي مبينا، أن “غياب التشريعات القانونية المنظمة للعمل الإعلامي يمثل العائق الأكبر في الوقت الراهن”، موضحاً بالقول: “لا نمتلك حتى الآن قانونًا شاملًا ينظم مهنة الإعلام، ونسعى جاهدين لإصدار تشريع يضمن تنظيم هذا القطاع الحيوي”.
وأشار إلى أن “تأميم الصحافة خلال العقود الماضية تسبب في تغييب صوت القطاع الخاص وأدى إلى تراجع الصحافة المستقلة، التي كانت نشطة ومؤثرة في فترات سابقة. مستشهد بصحيفة “الحقيقة”، التي كانت تُصدر في بنغازي وتحظى بشعبية كبيرة، حتى أن الناس كانوا يصطفون في طوابير أمام الأكشاك للحصول على نسخة منها صباح كل يوم سبت”.
كما استعاد ذكرى مجموعة من رموز الصحافة والأدب الذين ساهموا في تلك المرحلة الذهبية، أمثال الصادق النيهوم، وسمير عطا الله، ومعين بسيسو، وخليفة الفاخري، مشيرًا إلى أن “غياب هذه الأسماء، إلى جانب غياب بيئة قانونية داعمة، يشكّلان اليوم عائقًا حقيقيًا أمام تطور الإعلام الليبي”.
من جهة أخرى، لفت البوسيفي إلى “مشكلات هيكلية يعاني منها المشهد الإعلامي الليبي، أبرزها تعدد النقابات الصحفية، وغياب فاعليتها”. مشيراً إلى أن “هناك أكثر من خمس نقابات للصحفيين، وجميعها، للأسف، تفتقر إلى الفاعلية اللازمة للدفاع عن حقوق الصحفيين وضمان استقلاليتهم”.
وشدد على أن “وجود كيان نقابي موحد، تديره قيادات منتخبة ويتمتع بالاستقلالية، من شأنه أن يسهم في تحسين بيئة العمل الصحفي، ويعزز من دور حرية التعبير في مواجهة التحديات المتزايدة”.
وأكد أن “ليبيا، رغم كل التحديات، لا تزال تملك الفرصة للحاق بركب التحول الرقمي الذي يشهده العالم العربي”، موضحًا أن “النماذج الإعلامية في الخليج والمغرب العربي حققت قفزات نوعية لا يمكن تجاهلها، ومع ذلك”.
وشدد على “ضرورة أن يكون النموذج الإعلامي الليبي نابعًا من الداخل، لا مستوردًا من الخارج”. داعياً إلى “الاستفادة من تجارب الدول العربية الرائدة، لكن دون التخلي عن الخصوصية أو الهوية الوطنية”.
وفي حديثه حول “إعلام المستقبل” في ليبيا، بين البوسيفي أن “الإعلام الوطني لا بد أن يستند إلى التجربة الليبية الخالصة”، مشيرًا إلى أن “مصر لعبت دورًا بارزًا في تشكيل الوعي الثقافي الليبي، لا سيما من خلال الأزهر الشريف والمؤسسات الإعلامية الرائدة، إلا أن المرحلة الراهنة تتطلب صياغة نموذج إعلامي ليبي يعكس تطلعات الشعب الليبي في مرحلة ما بعد الحرب”.
وتابع: “الحرب في ليبيا أوقفت مؤقتًا مسار تطور الإعلام، لكنها لم تقضِ على فرص اللحاق بالعصر الرقمي، داعيًا إلى استلهام أفضل التجارب دون أن يؤدي ذلك إلى فقدان الخصوصية الثقافية أو المهنية”.
وقال: “أصبحت النماذج الإعلامية العربية أكثر تقاربًا في ظل التحول الرقمي، وعلينا أن نتعلم منها، ولكن نبني على أساس هويتنا”.
وفي سياق آخر، تحدث البوسيفي عن غياب النموذج المتكامل الذي يمكن لليبيا أن تستنسخه في مسيرتها نحو إعادة البناء السياسي والاجتماعي.
وأكد أن “بعض النماذج، رغم تقدمها التقني أو الاقتصادي، تفتقر إلى عناصر أساسية مثل حرية التعبير، والتي تعد ركيزة لا يمكن الاستغناء عنها في أي تجربة ديمقراطية حقيقية”.
وفي معرض نقده لبعض النماذج، قال البوسيفي: “هناك مقولة ساخرة لكنها تعبر عن واقع مؤلم: الغني يشتري جريدة، والفقير يشتري جريدة، لكن الغني يشتري رئيس التحرير”، في إشارة إلى غياب الاستقلالية الحقيقية في كثير من المؤسسات الإعلامية، حتى في تلك التي تبدو حرة ظاهريًا.
واختتم البوسيفي حديثه بالتأكيد على أن “بناء نموذج إعلامي وطني لا ينبغي أن يكون مجرد استنساخ لتجارب الآخرين، بل عملية واعية تُعلي من شأن القيم الجوهرية مثل الحرية، والكرامة، والعدالة، والتركيز على صياغة نموذج ليبي ينبع من الواقع، ويتفاعل مع محيطه، وينفتح على التطور، دون أن يفقد جذوره الوطنية”.