في خطوة تُعتبر اختباراً حقيقياً للإرادة السياسية، يخوض المجلس الأعلى للدولة ومجلس النواب جولات تفاوضية مكثفة تهدف إلى حلحلة واحدة من أعقد الملفات التي توحّد الأزمة الليبية: ازدواجية المناصب والمؤسسات السيادية. هذه الجهود، التي تأتي على وقع جمود طال أمدَه، تهدف إلى تمهيد الطريق أمام توحيد السلطة التنفيذية وإجراء الانتخابات الوطنية.
إرث الصخيرات: جذور الأزمة المؤسسية
تعود جذور الأزمة الحالية إلى اتفاق الصخيرات السياسي الموقع في المغرب عام 2015، والذي سعى آنذاك لتشكيل حكومة وفاق وطني. إلا أن الآلية التي تم بموجبها توزيع المناصب السيادية العليا بين الأقاليم التاريخية الثلاثة في ليبيا (برقة، وطرابلس، وفزان) تحولت بمرور الوقت من وسيلة لإقرار السلام إلى “فخ” – وفق تعبير بعض النواب – أدى إلى تشتيت السلطة وتعطيل عمل الدولة.
فبناءً على معيار جغرافي، مُنِح إقليم برقة محافظ المصرف المركزي وهيئة الرقابة الإدارية، بينما حصل إقليم طرابلس على ديوان المحاسبة والمفوضية العليا للانتخابات، وحصل إقليم فزان على هيئة مكافحة الفساد والمحكمة العليا. هذا التوزيع، الذي كان يهدف إلى تحقيق التوازن، أدى عملياً إلى ولادة ازدواجية حادة في القيادة، حيث تسيطر الحكومة منتهية الولاية في طرابلس برئاسة عبد الحميد الدبيبة على جزء من هذه المؤسسات، بينما تدير الحكومة الليبية برئاسة أسامة حماد مؤسسات أخرى، مما خلق حالة من الفوضى الإدارية والمالية أعاقت تقديم الخدمات الأساسية للمواطن الليبي.
خريطة طريق الأمم المتحدة: حافز خارجي لحراك داخلي
لم تكن الجهود الدولية غائبة عن هذا المشهد المعقد. فقبل نحو شهر، طرحت بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا، بقيادة الممثل الخاص للأمين العام عبد الله باتيلي، خريطة طريق جديدة للحل السياسي. إلا أن تنفيذ بنود هذه الخريطة، التي تركز على التوافق على قانون انتخابي وإجراء الاستحقاقات، لم يبدأ بعد بسبب الخلافات الجوهرية.
في هذا السياق، يبدو أن المسار التفاوضي الحالي بين مجلس النواب والمجلس الأعلى للدولة، والذي تشرف عليه “لجنة مشتركة” شكلها الطرفان، يمثل محاولة ليبية داخلية للتعامل مع أحد الملفات الشائكة التي تعترض تنفيذ خريطة طريق الأمم المتحدة. ويؤكد النائب عبد المنعم العرفي في تصريح صحفي رصدته ليبيا 24 أن الهدف هو “كسر الجمود بما يتوافق مع خريطة الطريق التي طرحتها بعثة الأمم المتحدة خاصة في ما يتعلق بتوحيد المؤسسات التي فيها إشكالية تتمثل في الازدواجية”.
نموذج النجاح السابق: توحيد المصرف المركزي كسابقة إيجابية
لا تخلو الصورة من بصيص أمل. فقبل أشهر، تمكّن الليبيون من تحقيق إنجاز مهم تمثل في توحيد إدارة المصرف المركزي، الذي كان يعمل بقيادتين متوازيتين في طرابلس وبنغازي. يشكل هذا النجاح سابقة مهمة يستند إليها المفاوضون اليوم، حيث يثبت أن تجاوز الانقسام ممكن عندما تتوفر النوايا الحسنة.
ويشير العرفي إلى أن “الخطوة الأولى تم إنجازها قبل أشهر من خلال المصرف المركزي وهناك المجلس الأعلى للقضاء الآن، وسوف تعقد اللجنة المشتركة التي شكلها مجلس النواب والأعلى للدولة اجتماعات في الأيام المقبلة بشأن هذا الملف”. ويضيف مؤكداً، “ودون شك سيتم عقد جلسة بين الطرفين الأسبوع القادم من أجل حلحلة هذا الملفّ”.
التحديات القائمة: النوايا الحسنة والخلافات السياسية والجهوية
رغم التفاؤل الحذر، يظل الطريق محفوفاً بالتحديات. يرى عضو المجلس الأعلى للدولة أحمد لنقي في تصريح صحفي رصدته ليبيا 24 أن “ملف المناصب السيادية متوقف نجاحه على مدى صدق النوايا الحسنة لكلا الفريقين، ونأمل نجاح الفريقين في تجاوز الخلافات السياسية والجهوية حول التعيينات في المناصب السيادية”.
ويذهب لنقي إلى أبعد من ذلك، محمّلاً اتفاق الصخيرات المسؤولية، حيث يقول: “الحقيقة التي لا تغيب عن المتابع لمجريات الأمور السياسية في البلاد أن هناك فخا وضع في الاتفاق السياسي الموقع في مدينة الصخيرات المغربية هو التعيينات في المناصب السيادية لتشتيت السلطة السياسية وعدم قدرتها على تحقيق أهدافها”. معتبراً أنه “كان بالإمكان ترك هذه التعيينات للسلطة التنفيذية وحدها”.
الرهانات الكبرى: الاستقرار المالي والتمهيد للانتخابات
لا يقتصر ملف توحيد المؤسسات السيادية على الجانب الإداري فحسب، بل يمثل المدخل الأساسي لتحقيق استقرار أوسع. فتوحيد هيئات الرقابة مثل ديوان المحاسبة وهيئة مكافحة الفساد سيمكن من محاربة الفساد بشكل أكثر فاعلية وضمان الشفافية في إنفاق الثروة الوطنية. كما أن توحيد المفوضية العليا للانتخابات هو شرط لا غنى عنه لإجراء أي استحقاق انتخابي مقبل يكون نزيهاً ومقبولاً من جميع الأطراف.
ويؤكد النائب العرفي على هذه الأولوية بقوله: “لا نضع العربة أمام الحصان؛ توحيد المؤسسات لخلق الاستقرار المالي والرقابي ثم سيأتي الدور على توحيد السلطة التنفيذية”. هذا التصريح يوضح الاستراتيجية المتدرجة التي يتبناها المفاوضان: معالجة الأساس المؤسسي أولاً كتمهيد ضروري لأي حل سياسي شامل.
انتظار لنتائج الجولة التفاوضية المقبلة
ترقبٌ حذر يسيطر على الشارع الليبي والمجتمع الدولي على حد سواء لنتائج الجلسة المقررة الأسبوع المقبل بين مجلس النواب والمجلس الأعلى للدولة. فنجاح هذه المفاوضات لن يعني فقط تجاوز عقبة مؤسسية كبرى، بل سيمثل إشارة قوية على أن الفرقاء الليبيين قادرون على قيادة عملية الحل بأنفسهم. أما الفشل، فسيعمق من حالة الجمود ويُعيد البلاد إلى نقطة الصفر، مما يزيد من معاناة الشعب الليبي الذي أنهكته سنوات من الانقسام وعدم الاستقرار. الأيام القليلة المقبلة ستكشف إن كانت النوايا الحسنة التي يتحدث عنها المسؤولون قادرة على تحطيم جدار الشك والخلاف، أم أن “فخ” الصخيرات سيظل قائماً.
يمكن قراءة الخبر من المصدر من هنا