ليبيا 24
واشنطن تركّز على الاقتصاد والبعثة تدفع نحو الانتخابات السياسية
في خضم أزمة سياسية ممتدة منذ أكثر من عقد، تعود ليبيا مجددًا إلى واجهة الاهتمام الدولي، لكن هذه المرة ليس بسبب المعارك المسلحة أو الانقسامات الحكومية فقط، بل بسبب التباين الواضح بين رؤية الأمم المتحدة التي تسعى لتمهيد الطريق نحو انتخابات، وبين المقاربة الأميركية التي تركز على تعزيز الاستقرار الاقتصادي والأمني.
هذا التباين، الذي خرج إلى العلن عبر تصريحات المبعوثة الأممية إلى ليبيا حنا تيتيه، يثير تساؤلات واسعة داخل الأوساط الليبية حول ما إذا كان الأمر مجرد اختلاف في ترتيب الأولويات، أم أنه يعكس وجود مسارين متوازيين قد ينتهيان إلى إرباك الجهود الدولية وعرقلة التسوية المنتظرة.
خريطة الطريق الأممية: الانتخابات أولًا
منذ وصولها إلى ليبيا، حاولت المبعوثة الخاصة حنا تيتيه الدفع بخريطة طريق واضحة تقوم على مبدأ: لا سبيل لإنهاء الأزمة إلا عبر صناديق الاقتراع. وقد طرحت بعثتها خطة تركز على إعادة تشكيل مجلس المفوضية العليا للانتخابات، وصياغة قوانين انتخابية يتوافق عليها مجلس النواب والمجلس الأعلى للدولة، تمهيدًا لتشكيل حكومة موحدة تكون مسؤولة عن تسيير المرحلة وصولًا إلى الانتخابات.
من وجهة نظر البعثة، فإن أي مسار بديل، اقتصاديًا كان أو أمنيًا، لا يعدو كونه إطالة لعمر الأزمة وتأجيلًا لمشكلاتها، ويستند هذا الطرح إلى التجربة الليبية خلال السنوات الماضية، حيث فشلت الحكومات المتعاقبة في توحيد المؤسسات أو ضبط موارد الدولة، بسبب غياب الشرعية الانتخابية الجامعة.
واشنطن: الاقتصاد والأمن في الصدارة
غير أن التحركات الأميركية الأخيرة كشفت عن مقاربة مغايرة فالمسؤول الأميركي البارز مسعد بولس، مستشار الرئيس الأميركي لشؤون أفريقيا، كثّف لقاءاته مع قادة ليبيين من الشرق والغرب، وركز في حواراته على ملفات مثل استقلالية المؤسسة الوطنية للنفط والمصرف المركزي، وضمان استقرار الموارد الاقتصادية، إضافة إلى تعزيز التنسيق الأمني بين القوى العسكرية المتواجدة على الأرض.
وبحسب متابعين، فإن واشنطن تنظر إلى الملف الليبي من زاويتين رئيسيتين:
ولذلك، تبدو الولايات المتحدة أقل اهتمامًا بالملف الانتخابي، وأكثر ميلاً لإدارة الانقسام الحالي طالما أنه لا يهدد مصالحها المباشرة.
ردود الفعل الليبية: قلق وتساؤلات
داخل ليبيا، أثارت هذه الازدواجية ردود فعل متباينة فقد عبّر النائب عصام الجيهاني عن استغرابه من صمت البعثة الأممية إزاء لقاءات بولس، متسائلًا إن كانت هذه التحركات داعمة لمسار الأمم المتحدة، أم أنها تمثل أجندة أميركية منفردة تركز على مؤسستي النفط والمصرف المركزي.
ويرى الجيهاني أن صمت البعثة يعطي انطباعًا بأنها “تغض الطرف عن تحركات قد تضعف خريطتها السياسية”، وهو ما يثير الشكوك بشأن جدية المجتمع الدولي في دفع الليبيين نحو تسوية شاملة.
تباين في التحليلات: صراع أم تكامل؟
المحللون السياسيون بدورهم انقسموا في قراءة هذا المشهد فبينما يرى محمد محفوظ أن تحركات بولس اقتصادية الطابع ولا تشكل بالضرورة تصادمًا مع خريطة الأمم المتحدة، يؤكد صلاح البكوش أن هناك انفصالًا تامًا بين مقاربة البعثة التي تتمسك بالانتخابات، والمقاربة الأميركية التي تركز على الأمن والاقتصاد دون أي إشارة إلى الاستحقاق الانتخابي.
وبالنسبة للبكوش، فإن البيان الصادر عن الخارجية الأميركية عقب اجتماع نيويورك الأخير يثبت هذه الفرضية، إذ تجاهل مسألة الانتخابات بالكامل واكتفى بالترحيب بدعم خريطة تيتيه.
ويرى أن هذا التجاهل يعكس قناعة أميركية بعدم إمكانية إجراء انتخابات في الوقت الراهن، وأن أقصى ما يمكن تحقيقه هو توحيد المؤسسات الاقتصادية وتعزيز التنسيق الأمني بين الشرق والغرب.
خلفيات التباين: أين تتقاطع المصالح؟
التباين بين واشنطن والبعثة لا يمكن فصله عن السياق الأوسع للأزمة الليبية فمن جهة، تسعى الأمم المتحدة للحفاظ على دورها كوسيط رئيسي للأزمة، وإبقاء المسار السياسي تحت مظلتها، خاصة بعد تراجع مصداقيتها إثر فشل المحاولات السابقة لإجراء الانتخابات.
ومن جهة أخرى، تتعامل واشنطن ببراغماتية تركز على مصالحها الاستراتيجية، دون التورط في تفاصيل سياسية قد تعرّضها لخيبات جديدة.
وبذلك، يمكن القول إن الطرفين يلتقيان في هدف مشترك هو الحفاظ على استقرار ليبيا بما يمنع الانهيار الكامل، لكنهما يختلفان في الوسائل: الأمم المتحدة ترى أن الانتخابات هي المفتاح، بينما تفضل واشنطن إدارة الانقسام عبر الاقتصاد والأمن.
الخيارات أمام الليبيين: معضلة مزدوجة
الليبيون اليوم أمام معضلة حقيقية. فإذا تمسكوا بخريطة البعثة الأممية، فإن ذلك يعني الدخول في مرحلة انتقالية جديدة قد تمتد لسنوات، مع غياب ضمانات جدية لإجراء الانتخابات أما إذا انساقوا وراء المقاربة الأميركية، فقد يحققون استقرارًا اقتصاديًا وأمنيًا نسبيًا، لكنه سيكرّس الانقسام السياسي القائم.
ويرى بعض النواب، مثل عمار الأبلق، أن الحكم على وجود أجندة أميركية بديلة يتطلب الانتظار، مؤكدًا أن الخطوات الأميركية الحالية لا يمكن وصفها بأنها معارضة للخريطة الأممية، إلا إذا فشلت الأخيرة، وعندها قد تطرح واشنطن خطتها البديلة على أرضية جاهزة لتقبلها.
المخاطر المحتملة: إطالة الأزمة وتعمق الانقسام
أخطر ما يخشاه المراقبون هو أن تؤدي هذه الازدواجية الدولية إلى إطالة أمد الأزمة، وإبقاء ليبيا عالقة في حلقة مفرغة من المراحل الانتقالية.
فاستمرار الخلاف بين البعثة وواشنطن قد يعمّق الانقسام بين حكومتي الشرق والغرب، ويفتح الباب أمام مزيد من التدخلات الدولية المتعارضة.
وفي هذه الحالة، لن يكون الليبيون أمام خيار سياسي واضح، بل سيجدون أنفسهم مرتهنين لمقاربات خارجية متناقضة، كل منها يسعى لتحقيق مصالحه الخاصة على حساب استقرار البلاد.
أي مسار يملك فرصة النجاة؟
بين خريطة أممية تركز على الانتخابات، ومقاربة أميركية تضع الاقتصاد والأمن في المقدمة، تبقى ليبيا رهينة لعبة معقدة تتقاطع فيها الحسابات الدولية مع الانقسامات المحلية.
وفي غياب إرادة سياسية ليبية حقيقية لتوحيد الصفوف، ستظل البلاد معرضة لمخاطر استمرار المراوحة، أو الانزلاق نحو تسويات جزئية لا تعالج جذور الأزمة.
إن الرهان على الخارج، سواء الأمم المتحدة أو الولايات المتحدة، لن يكون كافيًا لإنقاذ ليبيا فما لم تُبذل جهود محلية صادقة للاتفاق على مسار جامع، ستظل كل خريطة طريق، أممية كانت أو أميركية، مجرد مشروع مؤجل يضاعف أوجاع الليبيين.
يمكن قراءة الخبر من المصدر من هنا