اقتصاد

“أبوسنينة” يكتب: من وحي محاضرة (الثورة الصناعية الرابعة)

كتب الخبير المصرفي “محمد أبوسنينة” مقالاً من وحي محاضرة “الثورة الصناعية الرابعة” التي قدّمها الأستاذ الدكتور المدني دخيل، بتاريخ 6/9/2025 بمقر حزب السلام والازدهار:

رؤية نحو مستقبل أفضل لليبيا

يكتب ويعلّق ويتحدث الاقتصاديون عن الكثير من الأحداث والمستجدات التي تشهدها الساحة الاقتصادية، ويتناولون القضايا الاقتصادية والمالية والمشكلات التي يواجهها ويعيشها الاقتصاد الليبي لأكثر من عقد من الزمان، وحتى قبل ذلك. فقد تناولوا في مقالاتهم ومداخلاتهم وأبحاثهم: سعر الصرف، التضخم، الدين العام، الدعم، عرض النقود، السيولة، السوق السوداء، الميزانية العامة للدولة، السياسات الاقتصادية، المرتبات، الإنفاق العام، المصارف، وغيرها من القضايا الأخرى التي شغلت وقت الباحثين والإعلاميين، والعديد من المهتمين على مختلف المستويات.

كما يقوم نظراؤهم في التخصصات الأخرى بتناول قضايا اجتماعية وسياسية وأمنية، حتى يبدو أنه لا يوجد ما هو أهم مما ينبغي بحثه غير هذه القضايا. والكثير مما يقال هو تكرار لما قيل وكُتب حول هذه القضايا في أكثر من مناسبة.

وفي الواقع، هذه المشكلات الاقتصادية والمظاهر والتشوهات هي أعراض لخلل هيكلي يعاني منه الاقتصاد الليبي، ويجري التصدي لبعضها من خلال مسكنات سرعان ما ينتهي مفعولها، حتى تظهر مختنقات جديدة، ولم يتم تناولها من خلال طرح الاستراتيجيات المناسبة التي تُبنى على دراسات استشرافية معمقة، وتقديم حلول جذرية لعلاجها. وهي نتيجة طبيعية للأسس التي بُني عليها الاقتصاد الليبي، وأسلوب إدارته، ونمط تخصيص الموارد المتبع، وللسياسات التي انتهجت طوال العقود السبعة المنصرمة، والتي لم يطرأ عليها تغيير جوهري مهم.

وربما وجد الاقتصاديون أنفسهم منهمكين في مناقشة هذه القضايا، لأنه لا يوجد من يهتم بغيرها، أو لأنها قضايا فرضت نفسها بحكم الأوضاع غير المستقرة، وارتباطها بما يمس الحياة اليومية للمواطنين.

ونتيجة لإهمال وتجاهل القضايا الهيكلية التي تواجه الدولة الليبية واقتصادها، والابتعاد عن بحثها، والتركيز على الأعراض والمختنقات التي تمت الإشارة إليها، ظلّ الاقتصاد الليبي يعاني من التشوهات والمشاكل، وصار أكثر هشاشة في مواجهة الصدمات. بل إن بعض القضايا والتحديات التي تواجه الاقتصاد زادت تعقيدًا، وترتبت عليها تبعات أشد خطورة اقتصاديًا واجتماعيًا، مثل: معدل البطالة المرتفع، وارتفاع معدل الجريمة، ومعدلات الفقر (نسبة من هم تحت خط الفقر)، وانحسار الطبقة الوسطى، وزيادة معدلات الفساد، وضعف الثقة في مؤسسات الدولة، وتوسع اقتصاد الظل، وتراجع مستوى بعض الخدمات العامة والبيروقراطية الإدارية المملة، وفقًا لما ورد في بعض الدراسات.

هذا لا يعني -بحال من الأحوال- أن بحث هذه القضايا ومحاولة علاجها غير مهم، أو أنه ينبغي تجاهلها والتوقف عن مناقشتها.

ولكن في المقابل، هناك قضايا أهم وتحديات أشد خطورة، تتعلق بمستقبل الاقتصاد الليبي، ومكانة ليبيا على الخارطة الجيوسياسية، في عالم يشهد تطورات متسارعة اقتصاديًا وتقنيًا، في ظل الثورة الصناعية الرابعة التي تجتاح العالم، وهي التطورات التي صارت محل اهتمام مختلف دول العالم .

تطورات تهدد مستقبل التنمية الاقتصادية والاجتماعية واستدامتها في ليبيا، والنمو الاقتصادي، ونوعية الحياة على الأرض؛ على المدى المتوسط والطويل، في حال استمرّت أوضاع الاقتصاد الليبي ونمط تخصيص الموارد الاقتصادية ونوعية المؤسسات التي تدير المشهد على ما هي عليه، والانشغال بقضايا هامشية، وتجاهل ما يجري حولنا، وغياب الرؤية المستقبلية الكفيلة بضمان التعايش مع القادم، وإمكانية الاستفادة منه، نتيجة التطور العلمي والثورة الصناعية ومظاهرها المختلفة، وغياب أية إنجازات تضمن الحياة الكريمة للأجيال القادمة.

إن التطور المتسارع الذي يشهده العالم في مختلف المجالات في إطار الثورة الصناعية الرابعة (ثورة المعلوماتية، الأتمتة، الرقمنة، الحوسبة، إنترنت المنظمات، تقنية الأعصاب، الذكاء الاصطناعي، تقنيات تحديد المواقع، العملات الرقمية، العربات ذاتية الحركة، سلاسل التوريد، إنترنت الأشياء، الطاقات النظيفة والمتجددة، تقنية الروبوتات، تقنية النانو، والويب 3)، وغيرها من المستجدات التي تشكل بعضًا من ملامح الثورة الصناعية الرابعة، وما سيترتب عليها من تداعيات اقتصادية واجتماعية وسياسية؛ وظهور لاعبين جدد على مستوى العالم، وتكوّن تكتلات دولية جديدة، وتغيّر متوقع في النظام المالي العالمي، لا شك أنها ستؤثر على مختلف دول العالم.

وقد تنبهت العديد من الدول لهذه التطورات القادمة، ووضعت الخطط والرؤى لمواكبتها والاستفادة منها. ليبيا لا تعيش في جزيرة معزولة حاليًا، بل إنها جزء من هذا العالم ولها تعاملات مع مختلف الدول، وتعتمد بشكل كبير على العالم الخارجي في الكثير من المجالات، لذلك فإن هذه التطورات لا بد أنها سوف تمس حاضر ومستقبل الاقتصاد الليبي بصفة خاصة، ونوعية الحياة على الأرض الليبية بصفة عامة، وتؤثر في قدرات ليبيا على التواصل مع العالم الخارجي. وقد نجد أنفسنا معزولين تقنيًا عن العالم الخارجي، ولن تكون لنا لغة مشتركة مع الدول المتقدمة والمؤسسات الدولية، لاسيما في المجال الاقتصادي والمالي والتقني.

ولنا أن نتساءل: ما علاقة هذه التطورات التي يشهدها العالم بمستقبل ليبيا واقتصادها وسكانها؟ وكيف يمكن أن تشكل مصدر قلق ومخاطر في حال عدم مواكبتها والاستعداد لها؟ ولماذا ندق ناقوس الخطر ونحذّر من مغبة غض النظر عن هذه المستجدات، وعدم الاهتمام بها والاستعداد لمواجهتها أو للتعايش معها، ونعتبرها أولوية قصوى، أسوة ببقية الدول التي أدركت خطورتها، واستعدت لمواجهتها والتكيف معها، والأهم من ذلك العمل على الاستفادة منها واستغلالها لصالح شعوبها، باعتبارها تشكل تقدمًا أحرزته البشرية في ركب العلم والازدهار؟

ندق ناقوس الخطر للأسباب التالية:

أولاً: ليبيا، منذ الاستقلال واكتشاف النفط وتصديره، كانت ولا تزال تعتمد على مورد طبيعي واحد، يشكل المصدر الوحيد للدخل الذي يموّل الإنفاق العام بنسبة تتجاوز 90%، وتساهم في استكشافه واستخراجه شركات أجنبية، وهو المصدر الوحيد للنقد الأجنبي الذي يموّل الواردات السلعية والخدمية.

ثانيًا: النفط الذي يعتمد عليه الليبيون ويتقاتلون بسببه، يعتبر موردًا طبيعيًا ناضبًا (قابلًا للاستنزاف والنفاد) على المدى المتوسط والطويل، فكيف يكون الوضع إذا نفد؟

ثالثًا: في ظل الثورة الصناعية الرابعة، واتجاه العالم نحو الطاقات النظيفة والمتجددة، يفقد الوقود الأحفوري سوقه كل يوم لصالح مصادر الطاقة النظيفة والمتجددة، مما يهدد أسعاره بالانهيار وانحسار المداخيل المتأتية من تصديره. ولنا أن نتصور الوضع لو انخفضت أسعار النفط الخام إلى ما دون 50 دولارًا للبرميل، وقد وصلت في يوم من الأيام إلى 9 دولارات للبرميل. كيف للحكومة أن تواجه التزاماتها في الداخل والخارج؟

رابعًا: الاقتصاد الليبي يعتبر اقتصادًا مكشوفًا بدرجة كبيرة، حيث يعتمد على الاستيراد من الخارج لتوفير معظم احتياجاته من السلع والخدمات، ويعتمد على تصدير سلعة رئيسية واحدة بنسبة تصل إلى ما يزيد عن 80%، مما يعرضه للصدمات من وقت لآخر.

خامسًا: اتساع مساحة البلاد التي تتجاوز 1.7 مليون كيلومتر مربع، وقلة عدد السكان، وارتفاع معدل النمو الحضري، وتركز السكان في المناطق الساحلية، مما يرتب صعوبة في تقديم الخدمات على أسس متوازنة أو متكافئة، ويزيد من الضغط على الموارد البيئية وإجهادها، وسيزداد الأمر سوءًا في ظل التغير المناخي، في حال عدم مواكبة التطور العلمي والعمل على استغلال كافة الموارد الطبيعية المتاحة.

سادسًا: هشاشة نظم مواجهة الكوارث الطبيعية والتغير المناخي، مما يزيد من حدة آثار هذه التغيرات والكوارث الطبيعية.

سابعًا: تزايد معدلات الهجرة غير النظامية وآثارها الاقتصادية والاجتماعية والديموغرافية والبيئية.

هذه العوامل والأوضاع التي يتصف بها الاقتصاد الليبي والمجتمع الليبي، وعدم وجود رؤية لمجابهتها، ومحدودية التفكير والبحث فيها، تهدد مقومات استدامة الحياة، وتنبئ بمخاطر وجودية جسيمة في ظل الثورة الصناعية الرابعة التي لم نستعد لاستحقاقاتها، والتي قد تعرض الدولة الليبية للعزلة ضمن المنظومة الدولية وما تواجهه من تحديات.

نعتقد أن المشاكل والمختنقات التي استحوذت على اهتمام الاقتصاديين والمهتمين بواقع الاقتصاد الليبي واستنزفت جهودهم، والتي أشرنا إليها في بداية هذا المقال، وبعض القضايا الاجتماعية والسياسية التي تستحوذ على اهتمام بعض المختصين، على الرغم من أهميتها، قد حالت دون الالتفات إلى هذه القضايا الجوهرية الوجودية الكبيرة والأساسية التي نحن بصدد الحديث عنها، وننبه هنا إلى خطورتها.

ويرجع ذلك للأسباب التالية:

  • عدم وجود رؤية متفق عليها تحدد ملامح مستقبل الدولة الليبية، تتضمن تحديدًا لهوية الاقتصاد الليبي الكامنة والمرجوة، وأساليب تخصيص الموارد، ومصادر الدخل، واستراتيجيات تنويع مصادر الدخل، ومكانة ليبيا في الاقتصاد العالمي وعلاقتها بالعالم الخارجي، وتعزز تنافسيتها في عصر ما بعد الوقود الأحفوري.
  • الثقافة الريعية التي تهيمن على المشهد وتطبع العلاقات والمعاملات في المجتمع الليبي، والتي شكّلت الشخصية الليبية وطبيعتها، وأثرت في المنظومة القيمية للمجتمع، ورفض التغيير.
  • عدم الاهتمام بالبحث العلمي، وتدني مستويات الإنفاق على البحوث العلمية الأساسية.
  • الانفصام بين المجتمع العلمي (مراكز الأبحاث والجامعات) وقطاعات الأعمال والريادة الصناعية، وهيمنة القطاع العام على النشاط الاقتصادي.
  • أوجه القصور في النظام التعليمي، وعدم مواكبته للتطور الذي يشهده العالم، وعدم الاهتمام بالتنمية البشرية.
  • تنامي معدلات الفساد، وعدم كفاءة تخصيص الموارد، والسياسات الاقتصادية المفقودة من جهة، والخاطئة -إن وجدت- من جهة أخرى، وغياب الحوكمة المؤسساتية والشفافية والمساءلة.

والسؤال المهم: كيفية الخروج من هذا الوضع، وما ينبغي القيام به في مواجهة هذه التحديات الوجودية، والاستعداد لاستحقاقات الثورة الصناعية الرابعة؟

أولاً: وضع رؤية موحدة لمستقبل ليبيا وشكل اقتصادها وهويته، وأساليب استغلال الموارد الاقتصادية وكيفية توظيفها، ووضع استراتيجية لتحقيق الرؤية.

ثانيًا: في إطار الرؤية، البدء في تنويع الاقتصاد رأسيًا، وتوجيه الموارد النفطية المتاحة في هذا الاتجاه قبل فوات الأوان، واستهداف القطاعات والنشاطات التي تمتلك فيها ليبيا ميزة نسبية، والاستثمار فيها، ومنها: الموقع الجغرافي، شاطئ البحر الممتد لأكثر من 2000 كيلومتر، الطاقة الشمسية، تجارة العبور، المناطق الحرة، السياحة، الصناعات التصديرية.

ثالثًا: ضمن الرؤية، وضع استراتيجية لتطوير النظام التعليمي تواكب متطلبات العصر واستحقاقات الثورة الصناعية الرابعة.

رابعًا: ضمن الرؤية، وضع استراتيجية لحكومة رقمية، ولعل منظومة “راتبك لحظي” أحد مكوناتها، والبدء في تنفيذها وفق إطار زمني محدد، وتقليص الجهاز الإداري، والتخلص من المركزية الإدارية.

خامسًا: فسح المجال أمام القطاع الخاص الوطني ليلعب دورًا أكبر في النشاط الاقتصادي، وتنمية موارد النقد الأجنبي، وتنمية موارد الميزانية العامة بالدينار الليبي.

سادسًا: ضمن الرؤية، إعادة هيكلة وإصلاح مؤسسات الدولة المختلفة لتكون مؤسسات احتوائية، وترسيخ نظم الحوكمة والمساءلة.

سابعًا: ضمن الرؤية، تكليف فريق من العلماء والخبراء في تقنية المعلومات لفهم آفاق الاستفادة من الثورة الرقمية واستكشاف آفاق الاستفادة منها.

ثامنًا: ضمن الرؤية، إدخال عامل الجدوى البيئية، ومعيار الخلو من الفساد كأسس ومتطلبات لاعتماد المشروعات والموافقة عليها.

تاسعًا: التصدي لظاهرة الهجرة غير النظامية، وتنظيم تواجد العمالة الأجنبية على الأراضي الليبية.

يمكن قراءة الخبر من المصدر من هنا

عن مصدر الخبر

صحيفة صدى الاقتصادية

أضف تعليقـك

6 + ستة =