كتب الخبير القانوني في مجال النفط “عثمان الحضيري”: ما هو الأثر الفني والقانوني على دمج الشركات النفطية الليبية في شركة واحدة؟ وما تأثير ذلك على العمليات النفطية؟ وما هو الحل الأمثل لزيادة الإنتاج وتدريب العاملين؟
كتب البعض من المهتمين بصناعة النفط في ليبيا آراء متعددة ومختلفة حول (دمج الشركات النفطية في شركة واحدة)، وأحاول في هذا المقال التخصصي والمهني طرح رأي بشكل شفاف وواضح عمّا هو الأثر الفني والقانوني على دمج الشركات النفطية الليبية في شركة واحدة؟ وما تأثير ذلك على العمليات النفطية؟ وما هو الحل الأمثل لزيادة الإنتاج وتدريب العاملين؟
تُعد صناعة النفط والغاز العمود الفقري للاقتصاد الليبي، حيث تشكل المصدر الرئيسي للدخل القومي وتمثل ركيزة أساسية للتنمية الاقتصادية والاجتماعية. وفي ظل التحديات المتعددة التي تواجه هذا القطاع، تبرز مسألة دمج الشركات النفطية الليبية في كيان موحد كخيار استراتيجي أثار الكثير من النقاشات الفنية والقانونية.
إن هذا التوجه نحو الدمج يهدف إلى تحقيق الكفاءة التشغيلية، وتقليل التكاليف، وتعزيز القدرة التنافسية في سوق الطاقة العالمي. ومع ذلك، فإن لهذه الخطوة أبعاداً قانونية معقدة تتعلق بملكية الأصول، والعقود القائمة، وهيكلية الشركات، بالإضافة إلى تحديات فنية تتصل بتكامل البنى التحتية، وتوحيد أنظمة التشغيل، واختلاف التخصص (استكشاف وإنتاج، صناعية، مصافي، بتروكيماوية، وإدارة الموارد البشرية).
في هذا المقال، نناقش الأثر الفني والقانوني لعملية دمج الشركات النفطية الليبية كما نوهنا، ونستعرض تأثير هذا الدمج على سير العمليات الإنتاجية والتشغيلية، مع تقييم الفرص والمخاطر المحتملة. كما نقترح الحلول المثلى التي من شأنها تعزيز كفاءة هذه الشركات وزيادة قدرتها الإنتاجية، وتطوير مهارات كوادرها الفنية من خلال برامج تدريبية فعالة تدفع نحو مستقبل أكثر استقرارًا واستدامة لهذا القطاع الحيوي.
⸻
- الأثر القانوني لدمج الشركات النفطية الليبية
يمثل دمج الشركات النفطية في كيان واحد تحديًا قانونيًا واسع الأبعاد، خاصة في بيئة سياسية غير مستقرة وتشريعية متغيرة مثل ليبيا. فكل شركة نفطية قائمة حالياً تخضع لإطار قانوني وتنظيمي خاص بها، يتضمن بقايا عقود الامتياز والمشاركة، والالتزامات المالية، والاتفاقيات مع الشركاء المحليين والدوليين.
من أهم القضايا القانونية التي تظهر عند محاولة الدمج، هي إعادة هيكلة العقود والاتفاقيات القائمة، وضمان استمرارية الحقوق والالتزامات دون الإخلال بالقانون أو إثارة نزاعات قضائية محلية ودولية. كما تبرز مسألة التبعية القانونية والإدارية: هل ستكون الشركة الموحدة تابعة بالكامل لمؤسسة النفط، أم ستُدار كشركة قابضة لها صلاحيات مستقلة؟
بالإضافة إلى ذلك، هناك تساؤلات حول حقوق العمال والموظفين، وأثر الدمج على العقود الفردية والجماعية، خصوصًا في ظل غياب قانون موحّد ينظم عمليات الدمج والاستحواذ في القطاع. ولعل غياب إطار قانوني حديث وواضح لعمليات الدمج في ليبيا يمثل أحد أكبر العوائق أمام تنفيذ هذه الخطوة بسلاسة وشفافية، ناهيك عما جرى مؤخرًا من استحواذ على مصالح شركات وطنية دون سند في قانون النفط والتشريعات المنظمة للصناعة النفطية.
⸻
- الأثر الفني والتشغيلي لدمج الشركات النفطية الليبية
من الجانب الفني، يمثل دمج الشركات النفطية تحديًا كبيرًا يتطلب تخطيطًا دقيقًا لضمان توحيد الأنظمة والعمليات التشغيلية المختلفة. فالشركات العاملة حاليًا تمتلك بنى تحتية متباينة، وأنظمة رقابة وجودة وإنتاج مختلفة، فضلاً عن تفاوت واضح في مستوى التكنولوجيا المستخدمة، وكفاءة الكوادر الفنية والإدارية.
أحد أبرز التحديات الفنية يتمثل في تكامل العمليات الإنتاجية، مثل الحفر، والتكرير، والنقل، والتوزيع، خاصة في ظل وجود فروق في سياسات التشغيل والمعايير الفنية المعتمدة بين الشركات. كما أن الربط بين قواعد البيانات والأنظمة المعلوماتية لكل شركة يتطلب عملية تنسيق معقدة قد تؤثر على استمرارية العمليات خلال مرحلة الدمج.
من ناحية أخرى، قد يكون الدمج فرصة لتحسين الأداء الفني إذا ما تم استغلاله بالشكل الصحيح. فتوحد الجهود قد يؤدي إلى رفع كفاءة المعدات، وتحديث التكنولوجيا، وتوفير الموارد من خلال التخلص من التكرار في العمليات، وهو ما قد ينعكس إيجابيًا على جودة الإنتاج وسرعة الإنجاز. وهل يتأتى ذلك في غياب قدرات فنية عالية الكفاءة، سواء على مستوى الإدارات الوسطى أو العليا، والغياب شبه الكامل لتطبيق القواعد الفنية والقانونية لهذه الصناعة؟ ومع ذلك، فإن غياب خطة فنية متكاملة لعملية الدمج قد يؤدي إلى تعطيل الإنتاج مؤقتًا، أو إلى فقدان الخبرات المتخصصة في حال لم تُدار هذه المرحلة بكفاءة وشفافية.
⸻
- تأثير الدمج على العمليات النفطية والإنتاج
إن دمج الشركات النفطية الليبية في كيان موحد قد يحمل تأثيرًا مباشرًا على العمليات النفطية، سواء من حيث الإنتاج أو من حيث كفاءة التشغيل. فمن الناحية الإيجابية، يمكن أن يؤدي الدمج إلى تبسيط سلسلة التوريد، وتوحيد إدارة الحقول والمنشآت، وتسهيل اتخاذ القرارات الاستراتيجية، ما يعزز من قدرة القطاع على زيادة الإنتاج والاستجابة السريعة للتحديات.
كما أن تقليل الازدواجية في المهام والخدمات بين الشركات قد يوفر موارد مالية وبشرية يمكن إعادة توجيهها نحو تطوير الإنتاج واستكشاف مناطق جديدة. كذلك فإن التنسيق الموحد قد يسهل من عملية إدارة المشاريع الكبرى، وتحقيق الشفافية في العقود والميزانيات، وهو ما يُعد خطوة مهمة نحو تحسين بيئة العمل والاستثمار. ويبقى السؤال: هل نمتلك ذلك؟ بالتأكيد ليس متوفرًا، على الأقل في الظروف الراهنة أو المستقبل المنظور!!
ومع ذلك، فإن هناك مخاطر محتملة قد تطرأ خلال عملية الدمج، من أبرزها التعطيل المؤقت للعمليات الإنتاجية نتيجة التغييرات في الهيكل الإداري والفني، أو بسبب التضارب في الصلاحيات والأولويات. كما أن اختلاف ثقافات العمل بين الشركات يمكن أن يؤدي إلى تباين في الأداء أو صعوبة في تحقيق الانسجام المطلوب، خاصة في الفترات الانتقالية. وما نشهده اليوم من تطورات يؤكد ذلك!
لذلك، فإن نجاح الدمج وتأثيره الإيجابي على العمليات النفطية يتوقف إلى حد كبير على وجود خطة مرحلية مدروسة، تُنفذ تدريجيًا، وتُشرف عليها فرق فنية وإدارية كفؤة ومؤهلة، مع توفير الدعم القانوني والمؤسسي الكافي لضمان الاستقرار والاستمرارية.
⸻
- الحلول المناسبة لدفع الشركات نحو زيادة الإنتاج وتطوير الكوادر
لضمان نجاح دمج الشركات النفطية الليبية وتحقيق الأهداف المرجوة منه، لا يكفي الاعتماد فقط على الجوانب القانونية والتنظيمية، بل من الضروري وضع رؤية استراتيجية واضحة ترتكز على تعزيز الإنتاجية وتطوير رأس المال البشري، معضلة قطاع النفط الليبي، بسبب التعيينات المثيرة للجدل، وعدم كفاءتها كما نشاهده اليوم في أغلب الشركات النفطية المملوكة كليًا أو جزئيًا.
أولاً، يجب التركيز على رفع كفاءة الإنتاج من خلال استثمار الموارد المالية بشفافية وحوكمة، والتقنية العالية في تحديث المعدات، وتطوير الحقول الناضبة باستخدام تقنيات الاسترداد الإضافي، واستكشاف مكامن جديدة باستخدام تقنيات حديثة مثل الذكاء الاصطناعي وتحليل البيانات الجيولوجية المتقدمة. كما يمكن اعتماد أنظمة رقمنة حقيقية شاملة تضمن متابعة دقيقة للعمليات وتقليل الفاقد والاختناقات التشغيلية.
ثانيًا، لا بد من إعداد برامج تدريب فاعلة (ليس من خلال دكاكين)، بل برامج تدريبية قوية لدى أكبر الشركات النفطية العالمية، وتأهيل مستمر يستهدف جميع المستويات الوظيفية (إدارية، قانونية، وفنية)، مع التركيز على الفنيين والمهندسين والمشرفين الميدانيين. ويمكن التعاون مع المعاهد المتخصصة المحلية والدولية لتوفير برامج تدريب احترافية في مجالات مثل السلامة، والصيانة، والإدارة المتقدمة للعمليات.
ثالثًا، من الضروري تعزيز ثقافة العمل الجماعي والابتكار داخل الكيان الموحد الجديد المزمع إنشاؤه، ومن خلال خلق بيئة تشجع على تبادل الخبرات وتحفيز الكفاءات، بالإضافة إلى تطوير نظام حوافز مبني على الأداء والإنتاجية، لا على الجهوية والقبلية كما يجري حاليًا.
كما يُعد تحفيز الشراكات مع الشركات الأجنبية ذات الخبرة أمرًا مهمًا لنقل التكنولوجيا وبناء قدرات محلية مستدامة، بشرط الحفاظ على السيادة الوطنية في اتخاذ القرار والإشراف على الموارد
وأخيرًا، فإن الاستقرار السياسي والإداري والقانوني يمثل الإطار الضامن لكل هذه الجهود؛ فبدون مناخ سياسي واقتصادي مستقر، يصعب جذب الاستثمارات أو تنفيذ خطط التطوير بشكل فعّال.
وفي نهاية مقالي هذا، إن دمج الشركات النفطية الليبية (المملوكة كليًا) في كيان موحد هو خطوة استراتيجية تحمل في طياتها فرصًا كبيرة وتحديات ملموسة. فبينما يمكن لهذا الدمج أن يُسهم في تعزيز الكفاءة، وتوحيد الجهود، ورفع الإنتاجية، إلا أنه يتطلب معالجة دقيقة للجوانب القانونية والفنية والتنظيمية لضمان نجاحه واستدامته. وقد أظهرت التجارب الدولية أن مثل هذه التحولات المؤسسية لا تحقق أهدافها إلا إذا رافقتها رؤية واضحة، وخطة تنفيذ محكمة، ودعم سياسي ومؤسسي قوي من حكومة راسخة وقوية في السياق الليبي. يُضاف إلى ذلك ضرورة الاهتمام بتأهيل الكوادر البشرية وتحديث التكنولوجيا، ما سيُسهم في بناء قطاع نفطي قادر على مواكبة التحديات العالمية وتحقيق التنمية الاقتصادية المنشودة.
في نهاية المطاف، فإن نجاح هذا الدمج لا يُقاس فقط بحجم الإنتاج أو بتقليص عدد الشركات، بل يُقاس بقدرته على خلق قطاع نفطي موحد وفعّال، تديره كفاءات وطنية مدرّبة، ويُسهم في تحقيق السيادة على الموارد وتحقيق مصالح الشعب الليبي على المدى الطويل.
والله من وراء القصد.
يمكن قراءة الخبر من المصدر من هنا