يعتبر ملف المصالحة الوطنية من أكثر الملفات حساسية وتعقيداً في المشهد الليبي المتأزم، حيث بدأت آمال الليبيين تنحسر في تحقيق أي تقدم ملموس بهذا الملف، خاصة بعد تصريحات عضو مجلس النواب، علي التكبالي، التي أظهرت عمق المشكلات التي تعتري هذه العملية. فقد استبعد التكبالي، بوضوح وحسم، حدوث أي تقدم في ملف المصالحة الوطنية، مُشيراً إلى أن الجهات الراعية لها، سواء كانت المجلس الرئاسي أو حكومة الدبيبة منتهية الولاية، باتت تعمل وفق أجندات متضاربة ومصالح متباينة، وهو ما يؤدي إلى تعثر مستمر.
وكان المجلس الرئاسي قد تبنى فكرة المصالحة الوطنية، وسعى لعقد مؤتمر جامع في مدينة سرت بنهاية أبريل الماضي، إلا أن هذه الجهود باءت بالفشل. فالمؤتمر الذي كان يعوَّل عليه ليكون نقطة تحول في المشهد السياسي الليبي تعثر قبل أن يُعقد، متأثراً بالتعقيدات السياسية المتجذرة التي لم تُحل بعد. ومن هنا يرى التكبالي أن الأزمة أعمق مما يظن الكثيرون، وأن الإشكال يكمن في القيادات التي تتولى هذه المهمة.
يكشف التكبالي في تصريحات صحفية رصدتها “أخبار ليبيا 24” عن أن هناك وجوهاً متكررة تتصدر ملف المصالحة، من شيوخ وزعماء عشائر ونشطاء سياسيين، لكن هؤلاء لا يمثلون إلا أنفسهم، على حد قوله. ويضيف: “يدّعون أنهم يمثلون قبائل ومناطق بالبلاد، ولكن الحقيقة أنهم لا يمثلون إلا مصالحهم الشخصية”. في هذا السياق، أشار التكبالي إلى أن هؤلاء المتصدرين للمشهد يسعون إلى تحقيق مكاسب مادية وسياسية على حساب معاناة المواطنين وقضيتهم.
وما يعزز من تصريحات التكبالي هو أن هذه الشخصيات نفسها تتواصل مع مختلف الأطراف المتنازعة في ذات التوقيت. فمن جهة يتفاوضون مع المجلس الرئاسي وحكومة الوحدة الوطنية، ومن جهة أخرى يفتحون قنوات اتصال مع القيادة العامة للجيش ومجلس النواب. الهدف من ذلك، وفقاً للتكبالي، هو البحث عن أي جهة ترعى مؤتمراتهم وجلساتهم العرفية التي تُستغل لإلقاء الخطب وإلقاء الأشعار، فيما تبقى المصالحة الحقيقية مجرد عنوان لا يتجاوز التصريحات الإعلامية.
يضيف التكبالي أن ما تم حتى الآن من محاولات للمصالحة لم يكن سوى معالجات ضعيفة لا ترتقي لمستوى المصالحة الحقيقية التي ينتظرها الليبيون. فالجهود التي بُذلت لم تكن سوى محاولات لترضية الأطراف دون معالجة جذور الأزمة. ويقول: “لم تحدث أي مصالحة حقيقية حتى الآن، وكل ما تم كان مجرد محاولات سطحية لم تؤدِ إلى نتائج ملموسة”.
ومن بين الأمور التي يراها التكبالي جوهرية في تحقيق المصالحة هي الشفافية في الخطط والبرامج التي تطرحها الجهات الراعية لهذه العملية. فبحسب رأيه، فإن غياب الشفافية يعزز الشكوك حول نوايا هذه الأطراف ويجعل من الصعب على الليبيين الوثوق بأن المصالحة ستتحقق فعلاً.
يشدد التكبالي على أن الشفافية هي العامل الحاسم لإنجاح أي عملية مصالحة. فالخطة التي تدعي أي جهة رعايتها يجب أن تتضمن توضيحاً دقيقاً لكيفية توفير الموارد المالية اللازمة لتعويض المتضررين، وكيفية إقرار الأطراف المذنبة بأخطائها. وبدون هذه الشفافية، فإن أي محاولة للمصالحة ستظل مهددة بالفشل.
ويحذر التكبالي من أن غياب الشفافية لا يعني فقط فشل المصالحة، بل يعني أيضاً تأكيد الشكوك التي يساورها الليبيون حول هذا الملف. فالناس باتوا يعتقدون أن ما يحدث ليس سوى صراع بين الأجسام السياسية والمؤسسات على اقتناص الأموال التي تُخصص سنوياً لملف المصالحة. وهذا، بدوره، يعزز الشعور بأن ما يحدث أمام الرأي العام الدولي لا يتجاوز حدود استعراضات سياسية تهدف إلى كسب نقاط أمام المجتمع الدولي دون تحقيق تقدم حقيقي على الأرض.
ومن بين الأمور التي تزيد من تعقيد المشهد، بحسب التكبالي، هو أن الأطراف المتصارعة تستغل ملف المصالحة لتحقيق مكاسب شخصية. فالمصالحة الوطنية تحولت إلى “تجارة” يستخدمها السياسيون وزعماء العشائر لتعزيز مواقعهم في السلطة وجمع الأموال. يقول التكبالي إن ما يحدث الآن هو استغلال لمعاناة الضحايا، الذين لم يحصلوا على أي تعويضات ملموسة رغم وعود متعددة من الأطراف المختلفة.
ويعتقد التكبالي أن ما يحدث هو تنافس بين المؤسسات السياسية على من سيستحوذ على الأموال المخصصة للمصالحة، وأن هذه الأموال تُستخدم كوسيلة للتفاخر والتباهي برعاية المؤتمرات أمام الرأي العام الدولي، دون أن يكون هناك اهتمام حقيقي بحل الأزمة أو تقديم حلول جذرية.
أمام هذا الوضع المعقد، يتساءل الكثيرون عن مستقبل المصالحة الوطنية في ليبيا. فالأوضاع الراهنة تشير إلى أن الطريق ما زال طويلاً وشائكاً، وأنه لا يوجد أفق واضح لتحقيق المصالحة في ظل هذه التعقيدات. فالتكبالي يرى أن المصالحة لن تتحقق ما لم تكن هناك إرادة حقيقية من كافة الأطراف لوضع حد للصراعات والتنازعات التي تعصف بالبلاد.
ويرى التكبالي أن الحل يكمن في توحيد الجهود والعمل بشفافية وبعيداً عن المصالح الشخصية الضيقة. فقط من خلال ذلك يمكن لليبيين أن يحققوا المصالحة التي يتطلعون إليها، بعيداً عن الخطب الرنانة والمؤتمرات الفارغة التي لا تؤدي إلى نتائج حقيقية.