في مشهد لا يختلف كثيراً عن باقي مناطق العالم التي تعاني من التقلبات الاقتصادية، تخرج علينا تحليلات ومواقف تنذر بالأسوأ، وتلقي بظلال من الخوف على الساحة الاقتصادية في ليبيا. غير أن مصباح العكاري، عضو لجنة تعديل سعر الصرف بمصرف ليبيا المركزي سابقاً، يقدم صورة مغايرة تماماً، ويطرح رؤية تفاؤلية مبنية على أساسات أكثر صلابة من مجرد أرقام عابرة.
في حديثه الأخير، وجه العكاري انتقاداً لاذعاً لمناشير وصفها بـ”المستفزة والمضللة”، والتي ذهبت إلى الترويج لفكرة أن ليبيا على وشك الإفلاس بناءً على عجز مالي مقدّر بـ3.8 مليار دولار في استخدامات النقد الأجنبي خلال الأشهر التسعة الأولى من العام 2024. بالنسبة للعكاري، هذه القراءة “بعيدة كل البعد عن الحقيقة”، بل ويؤكد أن “ليبيا بعيدة تماماً عن الإفلاس”، مشيراً إلى أن البلاد تتمتع بثروات طبيعية هائلة، وعلى رأسها النفط، الذي يشكل الركيزة الأهم في دعم الاقتصاد الوطني.
لا يمكن إغفال أهمية النفط في الاقتصاد الليبي، فهذه الثروة الطبيعية التي تتدفق من أرض ليبيا تشكل العمود الفقري للاقتصاد منذ عقود. ويشير العكاري في حديثه إلى أن تقارير المؤسسة الوطنية للنفط تؤكد “ارتفاع كمية الإنتاج بشكل واضح” بعد أن تم ضخ ميزانيات استثنائية لزيادة القدرة الإنتاجية. هذا التوجه يعكس السياسة المتبعة من الحكومة والمؤسسات الاقتصادية في التعامل مع التحديات المالية، حيث يعتبر النفط المصدر الرئيسي للإيرادات في الدولة.
إلى جانب النفط، يبرز العكاري الاحتياطيات النقدية الكبيرة التي تمتلكها ليبيا كأحد أهم عناصر القوة المالية. هذه الاحتياطيات تمثل “خط دفاع قوي ضد الصدمات” التي قد تواجه الاقتصاد الليبي في ظل التحديات الراهنة. ومع ذلك، يظل العكاري مدركاً لحقيقة أن البلاد لا تمر بفترة مثالية من الناحية الاقتصادية، إلا أن هذا لا يبرر التهويل الذي تمارسه بعض الجهات التي تحذر من انهيار اقتصادي وشيك.
من وجهة نظر العكاري، لا تقتصر مسألة الحفاظ على الاستقرار الاقتصادي على الثروات والاحتياطيات فحسب، بل تمتد إلى ضرورة الاستقرار الأمني وتوحيد الحكومة. فهو يرى أن تشكيل حكومة واحدة قوية ومستقرة “سيكون خط دفاع قوي آخر” يضاف إلى الاحتياطيات النقدية والقدرات النفطية للدولة. فالاستقرار السياسي هو المفتاح الحقيقي لتعزيز المناخ الاستثماري وجذب رؤوس الأموال، وبالتالي دفع عجلة التنمية الاقتصادية في البلاد.
يتناول العكاري أيضاً مسألة تنويع مصادر الدخل كأحد أهم الوسائل التي يمكن من خلالها تحسين الوضع الاقتصادي في ليبيا. فبينما يظل النفط هو المورد الرئيسي للإيرادات، يجب على ليبيا أن تبدأ في استكشاف وتطوير قطاعات أخرى مثل الزراعة، والصناعة، والخدمات. فتنويع الاقتصاد هو السبيل الأمثل لحماية البلاد من تقلبات أسعار النفط والتغيرات الاقتصادية العالمية التي قد تؤثر سلباً على الإيرادات.
في سياق حديثه، يوجه العكاري رسالة قوية لكل من يروج لفكرة الإفلاس: “نعم، نحن لسنا في أفضل حال اقتصادياً، ولكن ليس بهذا التهويل الصادم”. فهو يرى أن هذه التحذيرات المبالغ فيها تضر بالصورة العامة للبلاد وتثير القلق بين المواطنين والمستثمرين على حد سواء. ليبيا، بحسب العكاري، لا تواجه خطر الإفلاس بقدر ما تواجه تحديات اقتصادية تحتاج إلى حلول مستدامة ومتعددة الأبعاد.
العكاري ليس وحده في هذا التوجه. هناك العديد من الخبراء والمحللين الذين يرون أن ليبيا تمتلك من المقومات ما يجعلها قادرة على مواجهة التحديات الاقتصادية الراهنة. لكن هذا لا يعني أن الأمور ستكون سهلة أو أن التعافي سيكون فورياً. فهناك حاجة ماسة لإصلاحات جذرية في البنية التحتية الاقتصادية والسياسية، بدءاً من تحقيق الاستقرار الأمني ووصولاً إلى تنويع مصادر الدخل.
إن ما يطرحه العكاري يعكس رؤية عميقة ومبنية على الحقائق، بعيداً عن التهويل أو التحذير المبالغ فيه. نعم، ليبيا ليست في أفضل أحوالها الاقتصادية، ولكن هذا لا يعني أنها على وشك الإفلاس. بل بالعكس، هي دولة تمتلك قدرات هائلة من الموارد الطبيعية والاحتياطيات النقدية، إلى جانب فرص حقيقية للاستقرار والنمو إذا ما توفرت الظروف المناسبة.
فالمستقبل الاقتصادي لليبيا ليس رهيناً بالتقارير المثيرة للقلق، بل يتوقف على الإجراءات الواقعية والمستدامة التي يمكن اتخاذها. ومع تضافر جهود الحكومة والمؤسسات الاقتصادية، إلى جانب دعم القطاعات الإنتاجية غير النفطية، يمكن لليبيا أن تستعيد عافيتها الاقتصادية وتخطو بثبات نحو مستقبل أكثر ازدهاراً واستقراراً.
في ختام حديثه، يبدو أن العكاري يرسم صورة واقعية لمستقبل ليبيا، بعيدة عن التشاؤم الذي يروج له البعض، وقريبة من الأمل الذي يجب أن يتحلى به كل من ينظر إلى ليبيا كدولة تمتلك مقومات البقاء والتقدم. إنها دعوة لتوخي الحذر والتمسك بالعقلانية في مواجهة التحديات، بدلاً من الانسياق وراء التهويلات التي لا تستند إلى أرضية واقعية.