الدبيبة ومواجهة فساد حكومته المتأخرة: تنصلٌ من المسؤولية أم محاولة إصلاح؟
شهدت الكلمة الأخيرة التي ألقاها عبد الحميد الدبيبة، رئيس الحكومة منتهية الولاية، في الملتقى والمعرض الدولي الأول لجهاز الإمداد الطبي، حديثًا حادًّا حول الأوضاع المتردية الأوضاع المتردية في قطاع الصحة. وقد خصص الدبيبة جانبًا كبيرًا من كلمته لمهاجمة ما وصفه بـ”الفساد المستشري” في منظومة الصحة في ليبيا، بما فيها تجاوزات صارخة في إدارة الصيدلة وعطاءات الأدوية، موجهًا اتهامات صريحة لممارسات احتكارية ومؤسسات مسيطرة، لكنه بدا وكأنه يتنصل من مسؤولية حكومته التي يقودها منذ توليه المنصب.
يأتي هذا الانتقاد في وقتٍ متأخر، بعد أن تكشفت أزمات صحية وأدوية مفقودة وعجز واضح في توفير علاجات الأمراض المستعصية للمواطنين. ورغم توجيه الدبيبة لانتقاداته، فإن خطابه أثار تساؤلات حول حدود مسؤوليته هو شخصيًا في إدارة هذه الأزمات، كونه المشرف الأعلى على السلطة التنفيذية. فهل تعكس تصريحاته محاولة للتنصل من فشل حكومته، أم هي دعوة صادقة لإصلاح ما أفسدته الأيادي الخفية؟
أكد الدبيبة خلال كلمته أن منظومة الصحة في ليبيا تتعرض لعمليات فساد واسعة النطاق، متهمًا إدارة الصيدلة وموظفين في جهاز الإمداد الطبي بالتورط في “سرقات” من أموال مخصصة للعلاج والدواء، وحذر من مغبة دعوات المرضى تجاه كل من يختلس مالًا من هذا القطاع الحساس. وبأسلوب يبدو فيه أكثر تهربًا من مواجهة المشكلة بشكل مباشر، قال الدبيبة إنه نبه من يقومون بسرقة أموال الأدوية إلى عواقب أفعالهم، مشددًا على أنه “حلفهم بالله” للحفاظ على منصبهم، دون توضيح إجراءات محاسبة جادة قد تتخذها حكومته.
هذه التصريحات لم تمر دون أن تثير أسئلة حول آليات الرقابة الحكومية، فالدبيبة لم يكتفِ بالتصريح، بل أشار إلى ضرورة أن يعمل الجميع لخدمة المرضى، معتبرًا أن وزارته تعكف على إنشاء هيئات مستقلة وتنظيمات تحاول من خلالها ضبط أوضاع الصحة، إلا أن السؤال يبقى حول جدوى هذه التنظيمات في ظل عدم استقراره الواضح على سياسات فعالة وشفافة للحد من الفساد.
وفي إشارة إلى مشكلات إدارة الصيدلة تحديدًا، كشف الدبيبة عن حجم التلاعب بالعطاءات الصحية وكيف تسيطر شركات معينة على توريد الأدوية، وهي إحدى المشكلات التي ألقت بظلالها على الوضع الصحي المتأزم في ليبيا. وأوضح الدبيبة أن شركات محددة تستحوذ على عشرات الوكالات الطبية بطرق احتكارية، مما أثر سلبًا على توزيع الأدوية، مبينًا أن إحدى هذه الشركات تتجاوز ديونها مليار دينار ليبي، في وقت تبدو فيه الحكومة عاجزة عن اتخاذ إجراء صارم بهذا الشأن.
ألقى الدبيبة باللوم في هذا الوضع أيضًا على مسؤولين لم يحددهم في إدارته، مؤكدًا أن التوزيع غير العادل للوكالات يحرم مواطنين كثر من الحصول على أدوية هامة، لافتًا إلى أن “الشركات الاحتكارية” ما زالت مستمرة في توريد أدوية غير صالحة أو قديمة للسوق الليبي. وتساءل البعض عما إذا كان الدبيبة قادرًا على اتخاذ خطوات فعلية ضد هذه الشركات أو مسؤولين في حكومته دون تردد، خصوصًا بعد تلميحه إلى أن شركات الفساد تتصرف “وكأنها فوق القانون”.
الملفت في خطاب الدبيبة هو اعترافه بوجود مشاكل في توثيق الأعداد الحقيقية للمرضى الليبيين المحتاجين إلى العلاج، حيث قال إن الإحصائيات كانت تجري في العهد الماضي بطريقة عشوائية وغير دقيقة، مما أسهم في تفاقم مشكلات القطاع. ويأتي هذا الاعتراف ليزيد من التساؤلات حول آلية مراقبة الوزارة لحجم التوريدات الصحية، حيث كشف الدبيبة أن هناك آلاف المرضى الذين تم تسجيلهم دون أن يتلقوا العناية المناسبة في البلاد، الأمر الذي دفع العديد منهم إلى اللجوء لدول أخرى مثل تونس ومصر وتركيا طلبًا للعلاج.
وبرغم إعلانه تأسيس الهيئة الوطنية للأورام، إلا أن المتابعين يرون أن هذه الجهود قد تكون محاولة لتغطية إخفاقات الحكومة، خصوصًا وأن النظام الصحي يفتقر إلى قاعدة بيانات وطنية لمتابعة حاجة المرضى للأدوية والمستلزمات الطبية. وقد تطرق الدبيبة إلى إحدى الفضائح الكبرى عندما أشار إلى أن “حاويات” من القطن الطبي دخلت البلاد دون معرفة الجهة المسؤولة عنها أو مكان تخزينها، مشيرًا إلى أن التسيب في إدارة المخازن بلغ مستويات لا يمكن تحملها.
لم يخفِ الدبيبة استياءه مما وصفه “بهوامير الأدوية”، الذين يسعون للربح من خلال احتكار سوق الأدوية عبر الصيدليات الخاصة، وهو اعتراف ضمني بتواطؤ بعض الجهات داخل حكومته مع أصحاب هذه الصيدليات. وأوضح أن هذه الممارسات وصلت إلى حد إجبار المرضى على بيع ممتلكاتهم لتأمين جرعات من العلاج الضروري، مشيرًا إلى أن الجرعة الواحدة من الأدوية الكيميائية قد تصل إلى عشرين ألف دينار ليبي، مما يضع المواطنين أمام خيارات قاسية في ظل غياب أي رقابة أو دعم حكومي حقيقي.
تصريحات الدبيبة هنا تُظهر تناقضًا جليًا بين مسؤولياته كقائد للحكومة وبين انتقاداته المستمرة للمشكلات نفسها التي تقع تحت إشرافه المباشر، مما يدفع البعض إلى التشكيك في جديته وقدرته على إدارة الأزمات وإجراء الإصلاحات اللازمة في قطاع الصحة.
وفي إطار محاولاته لمواجهة المشكلات الصحية، أشار الدبيبة إلى أهمية إصلاح منظومة العطاءات وتحديث قاعدة البيانات الصحية لضمان شفافية أكبر ومتابعة مستمرة لسلاسل التوريد. كما دعا إلى تفعيل نظام “شراء الخدمة”، الذي يتيح للحكومة دفع تكاليف العلاج مباشرة للمرضى، بدلًا من الاعتماد على الاحتكارات الحالية. ومع ذلك، يشكك البعض في إمكانية تطبيق هذه الإصلاحات على أرض الواقع، في ظل الفساد المستشري وانعدام المحاسبة.
ختامًا، يمثل خطاب الدبيبة أمام الملتقى والمعرض الدولي الأول لجهاز الإمداد الطبي فرصة لتسليط الضوء على التحديات الهيكلية العميقة التي يواجهها قطاع الصحة في ليبيا. وبينما يحاول الدبيبة تحميل بعض الأطراف المسؤولية، لا يمكنه الهروب من حقيقة أنه يقود الحكومة التي تشرف على هذا القطاع، وأن مسؤولية الإصلاح تقع على عاتقه أولًا وأخيرًا.