أبدى الدكتور عبد الباسط القاضي، رئيس الهيئة الدولية لمكافحة الفساد والجريمة المنظمة في جنيف قلقه إزاء تصاعد الهجرة في ليبيا، وتحولها إلى أداة ضغط سياسي واقتصادي، مؤكدًا في مقابلة مع قناة الوسط، أن هذا الملف لم يعد مجرد قضية إنسانية، بل صار وسيلة تستخدمها الأطراف الدولية والإقليمية لتحقيق مصالحها.
وقال القاضي، أن المهاجرين باتوا عملاء تفاوض صامتين، يُبنى على معاناتهم تفاهمات خفية بين الاتحاد الأوروبي، وبعض الأطراف الليبية، مما يعكس استغلالًا مريعًا لمعاناتهم.
وأشار القاضي أن هناك تناقضاً صارخ في تعامل أوروبا مع هذا الملف، حيث تستمر في دعم قوات خفر السواحل الليبي، بالمعدات والقوارب، بل وحتى الأموال، رغم علمها المسبق بالانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان التي ترتكبها هذه القوات، في إشارة للقوات التابعة لحكومة الدبيبة.
كما نوه القاضي، بأن أوروبا لا يمكنها أن تدعم هذه القوات، ثم تدعي في الوقت ذاته الدفاع عن منظمات حقوقية متضررة من هذه الانتهاكات، مؤكداً أن أوروبا هي شريك رئيسي في ترتيب هذه الانتهاكات.
كما كشف رئيس الهيئة الدولية، عن وجود تنسيق منظم بين بعض المنظمات الأوروبية وخفر السواحل الليبي، حيث تسهل تلك المنظمات تحركات المهاجرين، وتعدهم مسبقًا للذهاب إلى نقاط معينة في البحر ينتظرون فيها سفن الإنقاذ، وهو نهج وصفه بـالخطير ويفتقر إلى الشفافية.
ودعا القاضي، إلى ضرورة اتخاذ موقف ليبي موحد وواضح تجاه هذا الملف، مشددًا على أن ليبيا يجب أن تفرض شروطها ولا تقبل أن تكون عرضة للابتزاز.
وفيما يتعلق بالتمويل، تساءل القاضي عن مصير ما يقارب نصف مليار يورو تُدفع تحت غطاء الدعم الإنساني.
وطالب بأن تُمنح هذه الأموال لجهة ليبية مسؤولة ووطنية تتولى ضبط وتنظيم الهجرة وفق القانون.
كما شدد على أهمية إصدار قانون يمنع اقتراب المنظمات الحقوقية من المياه الإقليمية الليبية لمسافة لا تقل عن 300 كيلومتر، بهدف حماية السيادة الوطنية والتصدي لأي تدخل خارجي.
ولم يغفل القاضي حقيقة مثيرة، وهي أن 80% من الشهادات التي يقدمها المهاجرون عند وصولهم إلى السواحل الأوروبية “كاذبة وموجهة”، إذ يُطلب منهم مسبقًا الادعاء بأنهم فروا من الموت والاضطهاد في ليبيا لتسهيل قبول طلبات اللجوء.
ووجه القاضي، مناشدة صريحة للقيادات السياسية في الشرق والغرب لتحمل مسؤولياتهم الوطنية، والعمل على توحيد الموقف الرسمي تجاه ملف الهجرة، ورفض استمرار استغلال معاناة المهاجرين كوسيلة للابتزاز الخارجي.
وأكد أن ما يحدث هو مسح لصورة ليبيا، وإهانة لكرامة مواطنيها، وهيبة الدولة.
وأشار الدكتور القاضي إلى أن أوروبا تمر بأزمة حقيقية في السياسات المتبعة لردع المهاجرين، حتى لو كان ذلك بأي ثمن، معتبراً أن تحميل ليبيا وحدها مسؤولية ما يحدث، محاولة لتصدير المشكلة، في حين يكمن الخلل الحقيقي في غياب الاستجابة الأوروبية، لا سيما من البحرية الإيطالية التي امتنعت عن التدخل لإنقاذ قارب كان قريبًا منها.
وأضاف أن هذا التواطؤ الصامت يعكس اتفاقًا ضمنيًا على ترك المهاجرين لمصيرهم، في مسعى لتخويف المنظمات الإنسانية ومنعها من تكرار عمليات الإنقاذ.
ورغم توجيه الاتهامات لخفر السواحل الليبية، أكد القاضي أن ذلك لا يعفي باقي الأطراف من المسؤولية، مشيرًا إلى أن بعض المنظمات الإنسانية أصبحت متعاونة مع شبكات في أفريقيا والسودان لتسهيل وصول المهاجرين إلى السواحل الليبية تمهيدًا لاستقبالهم.
من جهة أخرى اتهم القاضي الاتحاد الأوروبي، وخصوصًا إيطاليا، بالاستمرار في التعاون مع السلطات الليبية رغم تورطها في انتهاكات جسيمة بحق المهاجرين، واصفًا هذا التعاون بأنه إفلاس أخلاقي واضح، وهو موقف تتقاسمه منظمات حقوقية بارزة مثل منظمة العفو الدولية.
وأوضح أن هناك مؤامرة تُدار في الخفاء، حيث أظهرت تحقيقات ميدانية تواطؤًا مباشرًا بين البحرية الإيطالية وخفر السواحل الليبي – التابع لحكومة الوحدة الوطنية، في حالات تجاهل نداءات استغاثة من سفن مهاجرين.
وأكد القاضي أن القانون الدولي البحري يلزم السفن القريبة بتقديم المساعدة لأي سفينة في محنة، وهو التزام قانوني لا يمكن التغاضي عنه، معتبراً أن عدم استجابة إيطاليا لنداء استغاثة سفينة مهاجرين بعد تعرضها لهجوم يثير تساؤلات قانونية خطيرة حول مدى التزام روما بالقوانين الدولية. وأوضح أن خفر السواحل الليبي التابع لحكومة الوحدة الوطنية، كان وراء هذا الهجوم، واصفًا سلوك أفراده بالهمجي وغير المهني، خاصة في ظل غياب الرقابة والمحاسبة وسط الانقسام السياسي والفوضى في ليبيا.
وانتقد القاضي طريقة تعامل الاتحاد الأوروبي مع ملف الهجرة، حيث تلقي الدول الأوروبية اللوم على الجانب الليبي في الاجتماعات الثنائية، لكنها تتجاهل مسؤوليتها في السماح للمنظمات غير الحكومية بالاقتراب من السواحل الليبية، مما يشجع المهاجرين على المجازفة بحياتهم.
قائلاً: أن هذه المنظمات الأوروبية، التي تستقبل المهاجرين من السواحل الليبية وتنقلهم إلى أوروبا، تدير عملية منظمة للتهريب تحت غطاء إنساني، مدعيًا أن العديد منها يعمل كـ “صفقة ” يقوده أشخاص من جنسيات مختلفة، من بينهم لبنانيون ومغاربة ور
وأشار إلى أن خفر السواحل التابع لحكومة الوحدة الوطنية، يُستخدم كعصابات بحرية تشبه قراصنة السواحل الصومالية، حيث يتم ابتزاز المهاجرين واستخدام العنف بلا رقيب، مدعومين ماليًا وجسديًا من جهات أوروبية، دون أي محاسبة أو رقابة فعلية.
ودعا إلى فتح تحقيق دولي شفاف ومستقل للكشف عن تواطؤ الجهات الأوروبية مع الأطراف الليبية في الانتهاكات التي يتعرض لها المهاجرون، محذرًا من أن الصمت الدولي يشكل غطاءً لجرائم منظمة تُرتكب باسم مكافحة الهجرة.
وفي هذا السياق، أشار القاضي إلى أن التعاون القائم بين خفر السواحل الليبي وبعض الجهات الدولية، مثل الأمم المتحدة ومنظمة العفو الدولية، لم يساهم في تحسين أوضاع المهاجرين، بل أدى إلى تفشي انتهاكات خطيرة تشمل الاحتجاز التعسفي والتعذيب والتهجير القسري والاختفاء القسري، والتي تم توثيقها على مدى سنوات دون أن يشهد العالم أي محاسبة أوروبية أو مساءلة قانونية دولية.
وحذر من أن استمرار هذه الحالة سيكون له تداعيات خطيرة على مستقبل عمليات البحث والإنقاذ الإنساني في البحر المتوسط، مؤكدًا أن أزمة الهجرة لم تعد مسألة إنسانية أو سياسية فقط، بل تحولت إلى شبكة معقدة من المافيات والعصابات التي تنشط داخل الأراضي الليبية، مما يعمّق الأزمة ويجعل إدارتها أكثر تعقيدًا وسوءًا. ودعا إلى ضرورة إعادة النظر في سياسات التعاون الدولي، ووضع حد لتجاوزات حقوق المهاجرين، وضمان مساءلة حقيقية لكل الأطراف المتورطة.
وأدان القاضي حادثة إطلاق النار التي استهدفت سفينة الإنقاذ “أوشن فايكينج” في المياه الدولية شمال ليبيا، والتي شاركت فيها دورية ليبية، واصفًا الحادث بأنه “جريمة حرب” وفق نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية. واعتبر أن الإدانة المتأخرة من المفوضية الأوروبية “غير كافية”، داعيًا إلى مراجعة شاملة لجميع برامج الدعم الأوروبي لليبيا، خاصة في ملف الهجرة، مؤكداً أن بعض الجهات، لا سيما الإيطالية، تتعامل بشكل مباشر مع مهربين، وهذه المعلومات موثقة ومتوفرة.
وشدد على أن أي دعم مستقبلي لليبيا يجب أن يكون مشروطًا باحترام حقوق الإنسان والقانون الدولي، ومصحوبًا بآليات مراقبة صارمة تضمن حماية أطقم البحث والإنقاذ الإنساني.
وأكد أن الهجوم على طاقم السفينة تم بشكل متعمد ومباشر وبشهادة شهود، وهو جزء من نمط منهجي واسع من الهجمات المتكررة ضد المدنيين وسفن الإنقاذ منذ عام 2019.
واعتبر القاضي، أن هذه الحادثة ليست منعزلة، بل تعكس أزمة أعمق في السياسة الأوروبية تجاه الهجرة وحقوق الإنسان، منتقدًا التناقض بين المبادئ الأوروبية المعلنة والممارسات الفعلية.
كما اتهم إيطاليا بممارسة “الابتزاز” للحصول على ميزانيات ضخمة من الاتحاد الأوروبي عبر ملف الهجرة، مشيرًا إلى أن كل دولة أوروبية تدفع نحو 20 مليون يورو سنويًا، وأن إيطاليا تحتكر هذا الملف منذ عام 2011.
وفيما يخص الدور الليبي، رأى القاضي أن الهجوم يمثل محاولة لفرض سيطرة فعلية على المياه الدولية المجاورة للسواحل الليبية، رغم غياب الأسس القانونية لذلك، مشيرًا إلى أن التصرفات العنيفة قد تكون ناتجة عن قلة خبرة لكنها تبقى مرفوضة وخطيرة.
وختم القاضي تصريحاته بدعوته للمجتمع الدولي للتدخل العاجل لحماية أطقم الإنقاذ، ومحاسبة المتورطين في هذه الهجمات، وضمان التزام الدول بالقانون الدولي الإنساني.