ليبيا 24
ضبط ورشة “قوارب الموت” يكشف جزءاً من مأساة إنسانية وقانونية معقدة
مصراتة – في عملية نوعية كشفت جزءاً من البنية التحتية للإجرام المنظم، أعلنت النيابة العامة، مساء الاثنين، تفكيك شبكة إجرامية متخصصة في تصنيع القوارب المطاطية والخشبية المستخدمة في عمليات تهريب البشر عبر البحر المتوسط، والتي يُشار إليها محلياً باسم “قوارب الموت”، وذلك في مداهمة لورشة سرية بمدينة مصراتة الساحلية.
عملية استباقية تكشف “مصنعاً للموت”
جاءت العملية، وفق البيان الرسمي الصادر عن مكتب النائب العام، استناداً إلى بلاغ استخباراتي دقيق من مأمور إدارة المهام الخاصة، والذي تضمن معلومات استخباراتية حول نشاط مجموعة إجرامية تدير ورشةً لصناعة مركبات بحرية مخصّصة حصرياً لعملية تهريب المهاجرين. ومنحت النيابة الإذن القضائي الفوري بتفتيش الموقع.
وعند مداهمة الورشة في منطقة الدافنية، عثرت القوات على مشهدٍ يُجسّد حجم الكارثة الإنسانية: 6 قوارب مكتملة التجهيز وجاهزة للإبحار محملة بالمخاطر، و12 قارباً آخر في مراحل تصنيع متقدمة، ما يشير إلى نشاط صناعي مكثف وممنهج لتلبية الطلب المتزايد على هذه الرحلات غير المشروعة. وتمكنت القوات من إلقاء القبض على 10 أشخاص كانوا يعملون داخل الورشة، بينما أصدرت النيابة أوامر بضبط ثلاثة آخرين متورطين في إدارة النشاط الإجرامي وتمهيداً لمحاكمتهم.
السياق الأوسع: جريمة منظمة تتغذى على اليأس
لا تمثل هذه العملية سوى غيض من فيض في معركة ليبيا المستمرة ضد شبكات تهريب البشر التي اتخذت من الفوضى الأمنية والسياسية التي تعيشها البلاد منذ سنوات تربة خصبة لنموها. فقد تحولت ليبيا، ذات الشواطئ الممتدة على البحر المتوسط، إلى نقطة عبور رئيسية للمئات الآلاف من المهاجرين الفارين من الصراعات في السودان والاضطهاد في دول أفريقيا جنوب الصحراء، والفقر المدقع في دول آسيوية مثل بنغلاديش.
وتعمل هذه الشبكات بمنطق اقتصادي بحت، مستفيدة من اليأس الإنساني، حيث تتحول حياة الإنسان إلى بضاعة تباع بألاف الدولارات مقابل وعودٍ كاذبة بوصول آمن إلى الشواطئ الأوروبية. وغالباً ما تُجبر هذه الشبكات المهاجرين على ركوب قوارب هي في الحقيقة “مراكب موت” غير صالحة للإبحار، ومزدحمة بشكل يفوق طاقتها الاستيعابية بعشرات المرات، دون توفير سبل السلامة الأساسية من سترات النجاة أو المؤن الكافية.
مأساة متكررة.. حريق قارب طبرق أنموذجاً
وفي تأكيد مأساوي على طبيعة هذه المخاطر، جاء خبر مأساة أخرى هزّت الرأي العام، حيث أعلنت المنظمة الدولية للهجرة، الأربعاء، عن غرق قارب قبالة سواحل مدينة طبرق، يوم الأحد الماضي، أدى إلى مقتل 50 مهاجراً سودانياً على الأقل، بينهم نساء وأطفال، بينما نجا 24 آخرون فقط.
ووفقاً لمصادر بالمنظمة، اندلع حريق مفاجئ في القارب المطاطي الذي كان يقل 75 شخصاً، مما تسبب في الفوضى والذعر وسقوط العشرات في المياه، في مشهدٍ يكرر نفسه بشكل شبه يومي لكن بعيداً عن أعين الكاميرات. وقدّمت المنظمة الدولية الدعم الطبي العاجل للناجين من الصدمة الجسدية والنفسية التي تعرضوا لها.
التحدي القانوني والمجتمعي: بين الملاحقة والاستيعاب
تواجه السلطات معضلة قانونية وإنسانية معقدة. فمن جهة، هناك جهود حثيثة من قبل أجهزة الأمن والنيابة العامة، لمكافحة الجريمة المنظمة وملاحقة مهربي البشر وتفكيك بنيتهم التحتية تحت مظلة القانون الليبي والاتفاقيات الدولية.
ومن جهة أخرى، توجد أزمة استيعاب وإدارة لأعداد المهاجرين الهائلة الموجودة أصلاً داخل الأراضي الليبية، والتي تقدرها المنظمة الدولية للهجرة بنحو 867 ألف مهاجر من 44 جنسية حتى فبراير 2025. وتعاني مراكز الإيواء الرسمية من ظروف صعبة وازدحام كبير، وسط انتقادات منظمات حقوقية متكررة.
برامج العودة الطوعية.. هل هي الحل؟
كمحاولة لتخفيف الضغط، تعمل السلطات، بالتعاون مع المنظمة الدولية للهجرة، على برامج “العودة الطوعية” للمهاجرين الراغبين في العودة إلى بلدانهم الأصلية. ففي سياق منفصل، أعلنت الإدارة العامة لأمن المنافذ، الثلاثاء، عن ترحيل 174 مهاجراً نيجيرياً من مطار سبها الدولي إلى لاغوس في نيجيريا.
ورغم أن هذه البرامج تُقدم حلاً إنسانياً للكثيرين ممن فقدوا الأمل في الوصول إلى أوروبا أو وجدوا أنفسهم عالقين في ظروف لا إنسانية في ليبيا، إلا أنها لا تمثل حلاً جذرياً للظاهرة، طالما بقت الأسباب الجذرية للهجرة من حروب وفقر واضطهاد قائمة، وطالما وجدت شبكات التهريب من يملأ جيوبها من اليائسين.
خلاصة: معركة على جبهات متعددة
عملية ضبط ورشة “قوارب الموت” تظل حلقة في سلسلة طويلة ومعقدة. إن معركة ليبيا ضد تهريب البشر هي معركة على جبهات متعددة: أمنية لملاحقة الشبكات الإجرامية، وإنسانية للتعامل مع تبعات هذه الهجرة، وقانونية لتطبيق التشريعات، ومجتمعية لمواجهة التأثيرات الاجتماعية للوجود السكاني الكثيف للمهاجرين. وهي معركة لا يمكن خوضها بمفردها، بل تتطلب تعاوناً إقليمياً ودولياً حقيقياً لمعالجة جذور الأزمة في دول المنشأ، وتقديم حلول آمنة وقانونية للهجرة، إلى جانب دعم قدرات الدولة الليبية المنهكة أصلاً على إدارة هذا الملف الشائك.
يمكن قراءة الخبر من المصدر من هنا