ليبيا 24
البحر المتوسط يبتلع أحلام المهاجرين مجدداً وتصاعد الدعوات لمعالجة جذور الأزمة.
في مشهد يجسد مأساة إنسانية متكررة، لا تزال مياه البحر الأبيض المتوسط قبالة السواحل الليبية تحتفظ بأسرار العشرات من المهاجرين، معظمهم من السودان، بعد أن ابتلعت قارباً متهالكاً كان ينقلهم من جحيم الصراع في بلادهم إلى مجهول يملؤه الأمل.
الحادثة التي أعلنت عنها المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، والمنظمة الدولية للهجرة، لم تكن سوى حلقة جديدة في سلسلة طويلة من كوارث الهجرة غير النظامية، التي تطرح أسئلةً محرجة عن المسؤولية والحلول في ظل استمرار حالة اللااستقرار وتعثر المسار السياسي في ليبيا.
تفاصيل المأساة: أرقام تتحول إلى ضحايا
وفقاً للبيانات الرسمية الصادرة عن المنظمات الدولية، انقلب القارب الذي كان يقل ما لا يقل عن 74 مهاجراً على بعد أميال من السواحل الشرقية ليبيا.
ولم ينجُ من تلك الكارثة سوى 13 شخصاً فقط، تم إنقاذهم ونقلهم لتلقي العلاج، بينما أُدرج 61 شخصاً في عداد المفقودين، الذين يُخشى أن ينضموا إلى قائمة الضحايا التي تطول يوماً بعد يوم.
وتأتي هذه الحادثة بعد أيام فقط من حادثةٍ مماثلة قبالة مدينة طبرق، حيث لقي 50 مهاجراً سودانياً حتفهم إثر احتراق قاربهم المطاطي وغرقهم.
هذه الأرقام الإحصائية، التي قد تتحول إلى مجرد بيانات روتينية في تقارير المنظمات الدولية، تمثل في واقع الأمر قصصاً إنسانية مفجعة.
كل رقم هو شابٌ غادر أسرته في السودان أملاً في إيجاد فرصة عمل لإنقاذها من براثن الفقر، أو طالبٌ حلم بمستقبل تعليمي أفضل، أو أبٌ سعى إلى تأمين حياة كريمة لأطفاله بعيداً عن أزيز الرصاص ودمار الحروب.
السودان: منبع معاناة.. الصراع والانهيار الاقتصادي يغذيان هجرة اليأس
لا يمكن فهم دوافع هذه المخاطرة المحفوفة بالموت دون النظر إلى الوضع الكارثي في السودان. فمنذ أن اندلع القتال الدامي في أبريل 2023، دخل البلد في نفق مظلم من العنف والدمار والانهيار الشامل لكافة مناحي الحياة.
أجبر النزاع الملايين على النزوح داخلياً أو الفرار عبر الحدود إلى دول الجوار، التي تعاني بدورها من أوضاع اقتصادية صعبة، مما يدفع الكثيرين إلى اعتبار الهجرة إلى أوروبا الخيار الوحيد المتبقي، حتى لو كان الثمن هو حياتهم. لقد تحول حلم “الوصول” إلى أوروبا إلى هاجس يطغى على أي تقدير للمخاطر، في ظل غياب أي أفق للحل أو استقرار في الوطن الأم.
ليبيا: معبر الموت.. فشل الحوكمة وتواطؤ الميليشيات
إذا كان السودان يمثل منبع المأساة، فإن ليبيا تحتل موقع القلب منها. فالبلد الذي يعيش حالة من الفوضى وعدم الاستقرار السياسي منذ سنوات، وتخضع فيه مؤسسات الدولة لصراعات بينية وتأثير ميليشيات مسلحة، أصبح الممر الأكثر فتكاً للمهاجرين في العالم.
لم تعد ليبيا، تحت إدارة الحكومة المنتهية ولايتها بقيادة عبد الحميد الدبيبة، قادرة على فرض سيطرة فعلية على حدودها الساحلية الطويلة.
بل إن تقارير عدة لمراقبي حقوق الإنسان تؤكد تواطؤ بعض الفصائل والميليشيات المسلحة مع شبكات التهريب والإتجار بالبشر، مستفيدة من حالة اللا قانون لتحقيق أرباح طائلة على حساب معاناة البشر.
إن عجز هذه الإدارة عن تأمين الحدود، ناهيك عن توفير الحد الأدنى من الاستقرار والأمن للمواطنين الليبيين أنفسهم، يجعل منها شريكاً غير مباشر في هذه الكوارث المتلاحقة.
إن استمرار شرعية حكومة منتهية الولاية، تفتقر إلى السيطرة الفعلية وتغيب عنها المقومات الدستورية الكاملة، يزيد من تعقيد الأزمة الإنسانية ويحول دون وجود شريك حقيقي وفعال يمكن للمجتمع الدولي التعاون معه لمعالجة جذور مشكلة الهجرة غير النظامية بشكل مستدام وإنساني.
الدور الدولي: بين حدود المسؤولية وتضارب الأولويات
يواجه المجتمع الدولي، وفي مقدمته الاتحاد الأوروبي، انتقادات حادة تجاه سياسته التي تركز على “تأمين الحدود” الخارجية وتفويض عمليات اعتراض القوارب وإعادتها إلى ليبيا، دون النظر بشكل كاف إلى الظروف اللاإنسانية التي يعود إليها المهاجرون.
فمراكز الاحتجاز في ليبيا توصف بأنها “بؤر انتهاكات” بحقوق الإنسان، حيث التعذيب والاعتقال التعسفي والعنف الجنسي هي أمور شائعة.
وبينما تخصص الدول الأوروبية مليارات اليورو لتعزيز دوريات خفر السواحل الليبية وتأمين حدودها الجنوبية، يبدو الدعم المقدم لتحسين أوضاع اللاجئين والمهاجرين داخل ليبيا، أو لمعالجة الأسباب الجذرية للهجرة في دول المنشأ، غير متناسب ولا يلبي حجم الكارثة.
هذا النهج الأمني المحض، الذي يتجاهل الأبعاد الإنسانية والتنموية، يغذي حلقة مفرغة من المعاناة ولا يوفر حلاً جذرياً.
مستقبل غامض: نحو حلول شاملة أم مزيد من الترهل؟
إن معالجة أزمة الهجرة غير النظامية في البحر المتوسط تتطلب نقلة نوعية في السياسات والرؤى. فالحلول الأمنية وحدها أثبتت فشلها الذريع. لا بد من اعتماد مقاربة شاملة تعالج الجذور:
1. الحلول السياسية للنزاعات: يجب على المجتمع الدولي مضاعفة جهوده لتحقيق وقف دائم لإطلاق النار وحل سياسي شامل في السودان، كأولوية قصوى لوقف نزيف الهجرة القسرية.
2. الدعم التنموي في دول المنشأ: استثمار حقيقي وطويل الأمد في برامج التنمية الاقتصادية وخلق فرص العمل في الدول الأفريقية، بدلاً من سياسة المساعدات المؤقتة.
3. تأمين مسارات هجرة قانونية وآمنة: فتح قنوات للهجرة الشرعية للعمالة والمهاجرين للحماية الدولية، مما يسحب البساط من تحت أقدام شبكات التهريب.
4. مراجعة سياسات اللجوء والاستقبال في أوروبا: تبني سياسات أكثر إنسانية تضمن الحق في اللجوء وتوفر بدائل آمنة للوصول، بدلاً من دفع الناس إلى رحلات الموت.
5. مساءلة شبكات التهريب: تعزيز التعاون القضائي والأمني الدولي لمحاسبة مهربي البشر وتفكيك شبكاتهم المالية.
ختاماً، فإن المأساة المتكررة قبالة سواحل ليبيا ليست قدراً محتوماً. إنها نتيجة تراكمية لصراعات سياسية، وانهيار اقتصادي، وفشل حوكمة، وسياسات دولية قاصرة.
الضحايا الجدد، الذين راحوا في عرض البحر، يدفعون ثمناً باهظاً لغياب الإرادة السياسية الحقيقية لمعالجة هذه الأزمة متعددة الأوجه وهم يتركون وراءهم رسالة واضحة: لا مزيد من الوقت للتردد، فالحلول الشاملة والإنسانية أصبحت ضرورة ملحة، قبل أن تتحول مياه المتوسط إلى شاهد صامت على إحدى أكبر مآسي القرن الحادي والعشرين.
يمكن قراءة الخبر من المصدر من هنا