التقارب الدبلوماسي بين مصر وتركيا بعد سنوات من القطيعة السياسية قد يعيد تشكيل المشهد الإقليمي في الشرق الأوسط، ويثير التساؤلات حول تأثيره المحتمل على الملفات الساخنة في المنطقة، وخاصة الملف الليبي الذي طالما كان ساحة صراع مصالح بين الأطراف الإقليمية والدولية. بعد قطيعة دامت نحو 12 عامًا، بدا أن البلدين يسعيان لطي صفحة الخلافات السياسية القديمة، مدفوعين بالرغبة في تحقيق مصالح اقتصادية وأمنية مشتركة، إلا أن هذا التقارب يفتح الباب أمام العديد من التساؤلات حول مدى استمراريته وفعاليته في تحقيق الاستقرار في ليبيا.
شهدت العلاقة بين مصر وتركيا توترات حادة منذ أحداث الربيع العربي عام 2011، حيث دعمت أنقرة جماعات إسلامية في عدة بلدان عربية، من بينها ليبيا، وهو ما أثار حفيظة القاهرة التي كانت ترى في تلك الجماعات تهديداً لاستقرارها الداخلي. ومع تصاعد النزاع الليبي بين الفصائل المتناحرة، وجدت تركيا ومصر نفسيهما في موقفين متضادين؛ هذا الانقسام الإقليمي أدى إلى تعقيد الوضع في ليبيا، وجعل من الصعب تحقيق أي تسوية سياسية طويلة الأمد.
مع ذلك، شهدت الأشهر الأخيرة تحركًا غير مسبوق في العلاقات بين البلدين. فقد استقبل الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، نظيره المصري عبد الفتاح السيسي في أنقرة، في خطوة عكست الرغبة المشتركة في تجاوز الخلافات القديمة. ولعل من أبرز ما تم التطرق إليه في هذه اللقاءات هو الملف الليبي، الذي يعتبر ملفاً رئيسياً بالنسبة للبلدين. وفي تصريحات صحفية رصدتها “أخبار ليبيا 24”، أشار المحلل السياسي محمد امطيريد إلى أن التقارب بين القاهرة وأنقرة قد يساهم في إيجاد حلول للأزمة الليبية، حيث قال: “التوجه المصري التركي لحل الخلافات والنزاعات المشتركة على الملف الليبي يعتبر الخطوة الأهم في هذه المباحثات.”
من ناحية أخرى، أكد امطيريد أن القيادة العامة للجيش الليبي قد حاولت خلق بيئة مواتية للدولتين من خلال تعزيز التعاون في الجانب الاقتصادي، مشيرًا إلى أن هذا التعاون يمكن أن يكون مقدمة لاستقرار سياسي في ليبيا. فقد أصبحت تركيا ترى أن القيادة الليبية في الشرق تمتلك مرونة سياسية كافية للتعامل مع القوى الإقليمية، وهو ما أدى إلى نتائج إيجابية، تمثلت في لقاءات جمعت بين القيادة التركية والمصرية.
ومع ذلك، لا يخلو هذا التقارب من التحديات. ففي حين ترى بعض الأطراف أن المصالحة بين تركيا ومصر قد تساهم في إذابة الجليد بين الفصائل الليبية المتصارعة، يرى الكاتب والمختص بالشأن الليبي عبد الستار حتيتة أن التقارب بين البلدين لا يعني بالضرورة تحقيق استقرار سريع في ليبيا. وفي تصريحات صحفية رصدتها “أخبار ليبيا 24”، قال حتيتة: “التقارب بين مصر وتركيا لا يعني أن الأمور سوف تمضي على ما يرام في ليبيا. فهناك قدر من عدم الثقة بين البلدين، وقد يعملان من تحت الطاولة ضد بعضهما البعض.”
هذه التوجسات ليست بلا مبرر. فتركيا، التي تعد عضوًا رئيسيًا في حلف شمال الأطلسي (الناتو)، تواجه توجسًا مصريًا منذ سنوات. هذا التحالف العسكري الغربي قد يعيق التعاون الكامل بين البلدين في ليبيا، حيث تتعارض الرغبات الأمريكية مع التوجهات المصرية، مما يضيف مزيدًا من التعقيد على الملف الليبي.
إضافة إلى ذلك، يشير حتيتة إلى أن الأطراف الليبية لا تزال تواجه صعوبات كبيرة في التوصل إلى توافق سياسي شامل. وعلى الرغم من جهود مصر وتركيا لدفع عجلة الحل السياسي، تبقى الخلافات الدولية عاملاً مؤثرًا بالسلب على مستقبل ليبيا. وبحسب حتيتة، فإن “النزاعات الإقليمية بين مصر وتركيا ليست الوحيدة التي تعقد المشهد الليبي؛ بل إن هناك تدخلات دولية أخرى، منها توترات بين تركيا وأطراف غربية قد تؤدي إلى تصعيد جديد.”
في المقابل، يرى المحلل السياسي حسام الدين العبدلي أن التقارب المصري التركي قد يكون بمثابة فرصة ذهبية لحل العديد من الأزمات الإقليمية، بما في ذلك الأزمة الليبية. ويعتقد العبدلي أن “اللقاء بين السيسي وأردوغان يعكس رغبة حقيقية في إنهاء حالة الجمود السياسي في ليبيا.” وقد أشار إلى أن هذا التقارب قد يؤدي إلى خروج القوات الأجنبية من ليبيا، وهو مطلب رئيسي لكل من تركيا ومصر.
تجدر الإشارة إلى أن تركيا قد بدأت بالفعل في تعزيز وجودها في شرق ليبيا، حيث شاركت في جهود إعادة الإعمار بعد الكارثة التي شهدتها مدينة درنة. ووفقًا لما ذكره امطيريد، فإن “دخول تركيا كمستثمر في شرق ليبيا قد يعزز من دورها الإقليمي ويعيدها إلى دائرة الفاعلين الرئيسيين في الملف الليبي.”
على الرغم من هذه التطورات الإيجابية، يبقى الملف الليبي معقدًا، وتظل الأطراف الفاعلة في ليبيا تواجه صعوبات كبيرة في التوصل إلى توافق سياسي. إن التحديات التي تواجه ليبيا ليست فقط داخلية، بل تتعلق أيضًا بالصراعات الإقليمية والدولية التي تؤثر على المشهد السياسي فيها.