على صعيدٍ مشترك، امتدت جسور التعاون بين ليبيا والجزائر وتونس لتصل إلى عمق الأرض، حيث تتلاقى طبقات المياه الجوفية التي لا ترى العين، لكنها تحتضن الحياة. في خطوة تحمل بين طياتها الأمل والحذر، دخلت الاتفاقية الثلاثية لإنشاء آلية تشاور حول المياه الجوفية المشتركة حيز التنفيذ، لتشكل نقطة تحول في مواجهة تحديات الجفاف التي تهدد منطقة شمال أفريقيا برمتها.
صحيفة “الشروق” الجزائرية سلطت الضوء صباح اليوم على توقيع الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون مرسوماً تاريخياً للمصادقة على الاتفاقية، التي وقعها وزراء الموارد المائية للدول الثلاث في نيسان الماضي. كان ذلك في أعقاب لقاء ثلاثي جمع تبون بالرئيس التونسي قيس سعيّد، ورئيس المجلس الرئاسي محمد المنفي، حيث اتفقت الرؤى على ضرورة تنسيق الجهود في مواجهة التحديات المشتركة.
تشير هذه الاتفاقية إلى إدراك الدول الثلاث أن التشاور في مجال المياه الجوفية بات ضرورة وجودية أكثر منه خياراً تنموياً. الجفاف الذي ضرب المنطقة خلال السنوات الأخيرة أصبح مصدر تهديد مباشر لمياه الشرب والري، ما ينذر بتأثيرات كارثية على حياة الملايين.
في هذا السياق، قال وزير الري الجزائري طه دربال، إن الاتفاقية تعد “فاتحة خير” لمرحلة جديدة من التعاون الإقليمي، معرباً عن تطلعه لتوسيع التنسيق ليشمل مجالات أخرى. وفي المقابل، استعاد المتابعون كلمات نائب رئيس المجلس الرئاسي الليبي موسى الكوني، الذي كان قد دعا في قمة المناخ بمصر عام 2022 إلى إنشاء لجنة مشتركة لتطوير الموارد المائية. دعوته تلك لم تأت من فراغ؛ إذ عكس حديثه إدراكاً مبكراً لحجم النزاعات الخفية بين الدول الثلاث بشأن تقاسم المياه الجوفية.
مع تراجع معدلات الأمطار إلى مستويات قياسية، وازدياد الاعتماد على المياه الجوفية، تبرز الحاجة لإدارة متوازنة وعادلة لهذا المورد الحيوي. بينما تسعى الاتفاقية لتأسيس إطار تعاوني، يرى مراقبون أن نجاحها يعتمد على حسن النوايا واستدامة الالتزامات السياسية والعملية.
الجفاف الذي يعصف بشمال أفريقيا تجاوز كونه أزمة مناخية ليصبح معضلة اقتصادية واجتماعية، تهدد البنية التحتية للأمن الغذائي والمائي. هذا الواقع فرض على الحكومات الثلاث تبني لغة الحوار والتنسيق بدلاً من التصعيد، تجنباً لنزاعات محتملة قد تُلهب المنطقة المجهدة أصلاً بالنزاعات.
الاتفاقية الثلاثية تشكل بلا شك نقطة انطلاق واعدة، لكنها ليست سوى البداية. التحديات لا تزال قائمة، والآمال معقودة على ترجمة هذه الاتفاقية إلى مشاريع عملية تسهم في تأمين الاحتياجات المائية للأجيال المقبلة. على صعيد آخر، يبقى السؤال: هل يمكن لهذه الخطوة أن تكون نموذجاً لتعاون أوسع يشمل مجالات الطاقة والزراعة؟ أم أنها ستظل قيد الاختبار في مواجهة التحديات المائية فقط؟
بين طيات هذه الاتفاقية، يتجلى الأمل في أن تصبح المياه الجوفية رابطاً للتعاون، لا نقطة خلاف. لكنها أيضاً تذكير بأن الحياة في شمال أفريقيا ليست مجرد مسألة ماء، بل هي قصة إرادة تتحدى المستحيل.