ليبيا 24- عبدالعزيز الزقم
ليبيا، تلك الأرض التي تحولت من حلم التحول الديمقراطي إلى مسرحٍ للانقسامات، تقف اليوم مجددًا أمام خطاب أممي جديد. وقفت المبعوثة الأممية هانا تيتيه في مجلس الأمن، تحمل أوراقًا موسومة بالآمال، مقترحة مسارًا يمتد عامًا أو أكثر، يَعِد بانتخابات مؤجلة وحكومة موحدة ومؤسسات متصالحة. لكن ما بين الكلمات الرنانة والواقع المعقّد، يتبدى السؤال المرير: هل نحن أمام خارطة طريق حقيقية، أم أمام مشهد يتكرر منذ عقد بلا نهاية؟
الإحاطة: خطاب أم أداة؟
القانون الدولي علّمنا أن لمجلس الأمن ثلاث أدوات: قرار ملزم يُغيّر المعادلة، وبيان رئاسي يواسي ولا يُلزم، وإحاطة لا تتجاوز حدود العرض المعلوماتي. إحاطة تيتيه تقع في الثالثة؛ هي أقرب إلى قصاصة على طاولة الأمم، تُسجَّل في محاضر الجلسات ثم تُطوى. لكن في السياسة، قد يكون للقصاصة وزن، إذا وجدت من يلتقطها ويحوّلها إلى موقف، ومن ثم إلى فعل.
السياسة تصنع من الهامش متنًا
الإحاطة لا تُلزم، لكنّها تؤثر. فهي تُوجّه النقاش، وتُرتّب الأولويات، وتُرسل إشارات إلى الداخل الليبي وإلى الخارج الدولي. من يقرأ خطاب تيتيه يرى أنها لم تُقدّم أكثر من مسودة أولية: انتخابات خلال عام ونصف، حكومة موحدة، مؤسسات متصالحة. ولكن: من يضمن أن تلتقي الإرادات المحلية المتناحرة على ما اقترحته؟ ومن يضمن أن القوى الكبرى في مجلس الأمن لن تجعل من ليبيا ساحة مساومات أخرى؟
ليبيا وأسطورة “المرحلة الانتقالية”
منذ أكثر من عشر سنوات، يعيش الليبيون في نفق انتقال لا ينتهي. كل مبعوث أممي يَعِد بأن “هذه المرحلة الأخيرة”، ثم يرحل تاركًا الباب مفتوحًا لمبعوث آخر. الانتخابات المؤجلة أصبحت أسطورة، والحكومات المتعددة تحولت إلى عادة، والانقسامات المؤسسية ترسخت كأنها قدر. إحاطة تيتيه ليست الأولى، ولن تكون الأخيرة ما لم تُترجم إلى نص ملزم، يضع كل طرف أمام مسؤوليته.
القانون حين يُصبح رهينة السياسة
في عُرف مجلس الأمن، لا قيمة للإحاطة إن لم تتحول إلى قرار. والقرار نفسه قد يُفرَّغ من مضمونه إذا صيغ بلغة فضفاضة لا تملك أدوات التنفيذ. هكذا أصبح القانون الدولي رهينة التوازنات السياسية، فلا يُفعَّل إلا حيث تتقاطع مصالح القوى الكبرى. ليبيا هنا ليست استثناءً؛ فهي مسرح لتجاذب أمريكي–روسي، ولتنافس أوروبي–إفريقي، ولكباش إقليمي من ضفاف المتوسط حتى عمق الصحراء.
لعبة الأمم على الأرض الليبية
• واشنطن ترى في ليبيا ملفًا استراتيجيًا مرتبطًا بالطاقة وأمن المتوسط.
• موسكو تنظر إليها بوابةً للنفوذ في إفريقيا وموقعًا لتوازن جديد مع الغرب.
• فرنسا تلهث وراء انتخابات تنهي الفوضى، لكنها تصطدم باتهامات الانحياز.
• بريطانيا تُملي نصوص القرارات بحكم قلمها في مجلس الأمن.
• مصر والجزائر وتونس تتعامل مع ليبيا كعمق أمني لا يقبل الفراغ.
أما الشعب الليبي، فهو وحده الذي يدفع ثمن هذا الصراع؛ انقسام مؤسسات، فوضى أمنية، وانسداد سياسي خانق.
سوابق التاريخ: ما بين اليمن وسوريا والسودان
الإحاطات الأممية في تجارب أخرى كشفت حدود الفعل الدولي:
• في اليمن، لم تُحدث إحاطات بنعمر فارقًا إلا حين تُرجمت إلى قرار 2216.
• في سوريا، تحولت الإحاطات إلى روتين شهري عقيم، تُسجَّل الكلمات ولا تتحرك الدبابات.
• في السودان، بقيت الإحاطات بلا صدى أمام العنف على الأرض.
فهل تتكرر التجربة في ليبيا؟
بين الممكن والمستحيل
إحاطة تيتيه قد تبقى مجرد كلمات، وقد تتحول إلى نقطة انعطاف. الاحتمال الأول هو الأسهل: أن يُطوى الملف حتى يأتي مبعوث جديد. الاحتمال الثاني يحتاج معجزة سياسية: أن يتفق الخمسة الكبار في مجلس الأمن على نص ملزم، وأن يقبل الليبيون أنفسهم بالتنازل المتبادل.
المستقبل: أي طريق تسلكه ليبيا؟
أمام ليبيا ثلاثة مسارات:
1. البقاء في الدوامة: إحاطة بعد أخرى، وحكومات متناحرة، وانتخابات مؤجلة إلى أجل غير مسمى.
2. توافق سياسي هش: بيان رئاسي يعكس نية حسنة، لكنه لا يصمد أمام أول أزمة ميدانية.
3. قرار صارم: مجلس أمن يفرض خريطة طريق ملزمة، ويضع الأطراف أمام مسؤولياتها، ولو بالضغط والعقوبات.
خاتمة: ما بين القول والفعل
إحاطة تيتيه ليست نهاية القصة، بل فصل جديد في كتاب طويل كُتب بالحبر الأممي والدم الليبي. وحده الفعل، لا القول، هو ما يصنع التاريخ. فهل تجرؤ الأمم على تحويل الكلمات إلى التزامات، أم ستظل ليبيا رهينة خطابات تُلقى، وقرارات لا تُنفَّذ، وأمل يتبدد مع كل جولة جديدة؟
يمكن قراءة الخبر من المصدر من هنا